أولمبياد باريس... السياسة تُحرّك الرياضة
أعطى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بلاده إجازةً سياسيةً تمتدّ إلى نهاية الألعاب الأولمبية المُقامة في باريس، عندما أجّلت تسمية رئيس الحكومة إلى ما بعد الأولمبياد. وقد منح نفسه أيضاً فرصةً لاستيعاب الانعطافة الحادّة في سيناريو الانتخابات، والتي قذفت اليمين الفرنسي إلى مركز مُتأخِّر بعدما كانت التوقّعات تشير إلى حلوله في المركز الأول، ورغم أنّ هذا التأجيل يُوحي بالتركيز على الألعاب الأولمبية التي ترمز إلى السلام العالمي والتنافس الشريف بين البُلْدان، لكنّه يحمل وجهاً سياسياً بإعطاء فرصة زمنية أكبر لحشد التأييد، وقد يساهم النجاح في تجنّب أيّ اختراقٍ أمنيٍّ خلال هذا الكرنفال، تعزيزاً لنجاح سياسي، وهو أمر ليس مُستغرَباً، فهذه الألعاب قد اخترقتها السياسة، فاستُبعِدت من هذه الدورة بلدان عدّة لأسباب سياسية، أبرزها روسيا، التي حُرِم رياضيوها من المشاركة لتورّط جيشها في أوكرانيا، وعدم المشاركة في حدثٍ عالميٍّ سلمي جامع كهذا يعتبر إدانة جماعية للروس.
كان استغلال الحدث الأولمبي سياسياً سلوكاً منتظماً، تمارسه بعض الدول لإدانة أنظمة أو دول أخرى، فقد مُنعت الدول التي خسرت في الحرب العالمية الأولى (ألمانيا والنمسا والمجر والسلطنة العثمانية) من المشاركة في ألعاب بلجيكا عام 1918، ولاحقاً أراد هتلر ترسيخ ألعاب عام 1936، التي أقيمت في برلين، لنشر نظريّته وإثباتها في التفوّق العرقي، وقد فازت ألمانيا بالفعل بأكبر عدد من الميداليات، لكنّ أدولف هتلر، وفي لقطة لافتة، لم يفتهُ أن يُوجّه ضربة إلى العنصرية التي كانت رائجة في أميركا آنذاك، حين صافح واحتضن رجلاً أسودَ يُدعى جيسي أوينز، فاز بأربع ميداليات في برلين، وعادت الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية لتحرِم الدول المهزومة، لذلك أصبحت كلٌّ من ألمانيا واليابان خارج ميدان ألعاب 1948 في لندن. وفي أولمبياد ملبورن عام 1956 وجدت أستراليا نفسها في ورطة تنظيمية بعد أن واجهت الألعاب مقاطعة جماعية بسبب حدثَين عالميَّين كبيرَين، إذ هاجمت قوّات ثلاث دول مصر، فيما عرف بالعدوان الثلاثي، فقاطع الدورة كلٌّ من مصر ولبنان والعراق، كما غزا الاتحاد السوفييتي المجر، فقاطعت الدورة هولندا وإسبانيا وسويسرا.
وشكَّل النزاع على الاعتراف الدولي، بين الصين وما يعرف اليوم بتايوان، عقباتٍ أمام مشاركتهما في الأولمبياد في السبعينيّات، وفي عام 1976 قاطعت قارّة أفريقيا بكاملها ألعاب مونتريال احتجاجاً على سياسات الفصل العنصري. شكّلت الألعاب الأولمبية، في أوج الحرب الباردة، فرصةً لعرض العضلات الأيدولوجية بمسمَّيات رياضية، فقد مارست دول الكتلة الشرقية مع بداية الستينيّات جهوداً مُضاعَفة لتسجل اسمها في لائحة الميداليات، واعتاد العالم اسم الاتحاد السوفييتي متصدّراً شبه دائم لقائمة الميداليات. واستُخدم سلاح المقاطعة في وجه أولمبياد 1980، فكانت روسيا أول دولة من الكتلة الشيوعية تستضيفها، فقاطع كثير من دول الغرب ألعاب موسكو. وردّت الكتلة الشرقية بمقاطعة معظم دولها ألعاب لوس أنجليس، التي أقيمت عام 1984، وكان بروز الصين اقتصادياً وسياسياً في التسعينيّات سبباً لبروزها الرياضي، فحلّت محلّ روسيا في احتلال مراكز مُتقدّمة كثيراً في سجلّ الميداليات.
لا يمكن فصل هذا الحدث الرياضي الضخم عن السياسة بدءاً من اختيار البلد المُنظّم، الذي تلعب عوامل سياسية كثيرة في تحديده، مروراً بطريقة التمثيل وحجمه، وقد يسارع العديد من رؤساء الدول والحكومات لحضور حفل الافتتاح أو الختام رغم عدم قدرة دولهم على المنافسة رياضياً، إلّا أنّ الهمّ السياسي الذي يُلحُّ عليهم بالظهور يتفوّق على المثابرة الرياضية، التي هي عنوان رئيس للأولمبياد. وفي الدورة الحالية تخشى فرنسا من أصحاب "القضايا" الذين يلجؤون إلى العنف في عرض موقفهم، لذلك حشدت شرطتها وقسماً من جيشها، واستعانت بعناصر وخبرات دولية، لتحرص على عدم خروج الحدث الرياضي إلى مسار عنيف يُؤثر على سمعتها، ورئيسُها في حاجة إلى عرض قدرته في السيطرة والضبط المطلق.