أولغا توكارتشوك وإناث الشياطين
نحن في العام 1912، مع ظهور السيّارات الأولى والتحليل النفسي في سيليزيا السفلى الناطقة بالألمانية، في قريةٍ جبليةٍ جنوب بولندا قرب الحدود التشيكية، داخل مصحّةٍ لمرضى السلّ من الذكور حصرياً. الشخصية الرئيسية هي فوينيتش، المهندس الشاب الطموح الذي جاء كالآخرين من أجل العلاج. تلك هي المكوّنات الرئيسة لرواية الكاتبة البولندية، الحائزة جائزةَ نوبل للآداب (2018)، أولغا توكارتشوك، وتحمل عنوان "إمبوزا".
منذ الصفحات الأولى، نكتشف مع البطل زوجةَ مالك المكان منتحرة، وقد مُدّدت على المائدة في غرفة الطعام، وكانت قد أحضرت له الفطور في الصباح. موتٌ غامضٌ تغذّيه إشاعاتٌ متفرّقة تلقي بثقلها على الأجواء، إذ سنتعرّف إلى مجموعة من السادة أتوا للعلاج، وهم على اختلافهم، يجتمعون حول ذكورية مُفرطة وكراهية معلنة للنساء، وهما تفصيلان سيترافقان مع اكتشاف القارئ، بعد مُضيّه في القراءة واجتيازه تقريباً الربع الأول من الرواية، أنّ الراوي، أو بالأحرى الرواة الذين يستخدمون ضمير "نحن"، ما هم سوى تلك المخلوقات الأنثوية المدعوّة "إمبوزا"، اللواتي شكّلن في الميثولوجيا الإغريقية القديمة، موكب الإلهة الجهنمية؛ "هيكات". هنّ في الواقع نوع من إناث الشياطين، مع ساق حمار وأخرى من البرونز، يسافرن بين الجحيم والأرض، يوجدن في كلّ الأمكنة، سابحات في مستوى منخفض فوق الأرض، يتسلّلن مع الضباب الرمادي، عبر الفجوات والشقوق، قبل أن يظهرن بصورة فاتنات يغوين الشباب بجمالهن، فيأسرنهم ويقتتن على دمائهم، إلى أن يفارقوا الحياة. "أمّا نحن المتفرّجات المتحمّسات، فإنّ الأكثر إثارة للاهتمام عندنا هو ما يبقى دائماً في الظلّ، حيث يسود غير المرئي". بيد أنّهنّ، تحت قلم توكارتشوك، يتحوّلن إلى كائنات على درجة من الطرافة، إذ يقلن: "نحن الإمبوزا، نحبّ أن ننظر إلى الأحذية"، وهو ما يبرز أسلوبهن الغريب في الملاحظة وفي الوصف وفي النظر من تحت المائدة ومتابعة حركة الأحذية والأيدي والملابس والتفاصيل الجسدية الأخرى التي تكشف طبيعة الشخصية أكثر مما يفعل الكلام أو السلوك.
ولا بدّ للقارئ من أن يفطن إلى أنّ أولغا توكارتشوك تستعيد في روايتها مطلع رواية توماس مان "الجبل السحري" (1924)، لكنّها لا تلبث أن تبتعد عنه، فتضع بطلها في نُزُلٍ مجاور لمركز العلاج مخصّص للرجال، بانتظار أن يفرغ مكان في المصحّة، وهي من المصحّات الأولى التي طوّرها الطبيب بريمر لعلاج مرض السلّ بالحمّامات الباردة، والمشي المنعش على المرتفعات، والاستلقاء ساعات طويلة تحت أشعة الشمس. والبطل الشاب فوينيتش الذي يدرُس هندسة إمدادات المياه، فقير، على عكس بقية النزلاء، وهم ستّة رجال ألمان وبولنديين وروس ومجريين، يتحدّثون بجميع لغات أوروبا الوسطى، ويناقشون، عندما يجتمعون مساءً لاحتساء مشروب كحوليّ محلّي مصنوع من أنواع فطر مسببة للهلوسة، الفِكَرَ العصرية والفنّ والتحليل النفسي الناشئ، وقيمة الأمم والأعراق، والشياطين والدين، والوثنية، ووصفات الطبخ، ولوحة الموناليزا.
ومع ذلك، الهمّ أو القاسم المشترك للمجموعة الصغيرة هو كراهية النساء، والانتهاء بالتحدّث عنهن دوماً، وأيّاً يكن الموضوع، من أجل التركيز على دونيّتهن ونقاط ضعفهن العديدة، والحكم حتّى على النظام الأمومي، بوصفه تهديداً أحمق للبشرية. وهكذا، فإنّ النساء متخلّفات ذوات نفسياتٍ هشّةٍ وحسّاسة تجذبها الزخارف والنسيج، مع قائمة من الاجتهادات الخاصّة ترافقها خطابات لاذعة رهيبة تنتمي في الواقع إلى كتّاب ومفكّرين معروفين وذوي شأن، من أمثال فرويد، ونيتشه، وشوبنهاور، وسارتر، والقديس أغسطينوس... إلخ. بالتأكيد، يشعر البطل الشاب بالغربة إلى حدّ ما في هذه الأمسيات، فينتقل في ذكرياته بين طفولة أمضاها مع أب قاسٍ مُتطلّب في غياب والدة متوفاة، ومستقبلٍ غامضٍ يتعلّق بمرضه وبهشاشة نفسية رومانسية كئيبة، لا يعرف كيف يتغلّب عليها.
لن نضيف كي لا نفضح المزيد من هذه الرواية العميقة، الآسرة، التي تُحيل القارئ على أكثر من مرجعٍ ومصدرٍ معرفيّ، لا بدّ من أن تُثري وتُعمّق مستويات تلقّيها.