أوكرانيا .. شبح أندروبوف وظل شويغو
أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ما يمكن اعتبارها "الطلقة الأولى" في صراع أوكرانيا، عندما قال إن انهيار الاتحاد السوفييتي كان نهاية "روسيا التاريخية"، واصفًا إياه بأنه "أكبر كارثة جيوسياسية" في القرن العشرين، ونشر مقالاً في الموقع الإلكتروني للكرملين، ليبين لماذا يعتقد أن أوكرانيا "جزء لا يتجزأ من التاريخ والثقافة الروسيَين"!
وللمواجهة بشأن أوكرانيا جذور متشابكة، تلعب المصالح فيها الدور الأقل تأثيرًا، بل يمكن القول إن "التعلق بأوكرانيا" تهديد خطير للمصالح الروسية. وإذا قارنا المأزق الروسي الذي تسبب فيه منطق التشبث بأوكرانيا بالسلوك الصيني في ملف هونغ كونغ يتضح الفرق، فالصينيون لكي يحصلوا على مكاسب اقتصادية من العلاقة مع الغرب تركوا ملف احتلال هونغ كونغ عقودا طويلة. وسياسات بوتين التي قادت، في النهاية، إلى المأزق الراهن هي في الحقيقة "المتهم الأول". أما مشكلات توسع حلف الناتو شرقًا، أو الانفصاليين في شرق أوكرانيا، أو غيرها من العناوين هي (على الأرجح) قشرة تخفي بنية سياسية روسية، اعتنق بوتين ثوابتها منذ سنوات بعيدة، ويمكن وصفها بأنها "حلم يوري أندروبوف المجهض"!
مشكلات توسع حلف الناتو شرقًا، أو الانفصاليين في شرق أوكرانيا، أو غيرها من العناوين هي قشرة تخفي بنية سياسية روسية، اعتنق بوتين ثوابتها منذ سنوات بعيدة
قال الجنرال أوليغ ستورونوف، الذي أشرف على حراسة الدار الريفية لعائلة الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف، إن الأخير فكّر في اختيار خليفته، واستقرّ اختياره على سكرتير الحزب الشيوعي الأوكراني فلاديمير شيربيتسكي، وهذا الخليفة المحتمل نصح بريجنيف بتعيين يوري أندروبوف رئيسًا لجهاز المخابرات (كي جي بي)، وفيها تشرب بوتين أفكار أندروبوف، وما زال يطبقها، وأول ضحاياها: أوكرانيا!
وفي مطلع الثمانينيات، تعزّزت مكانة أندروبوف في الحزب (الشيوعي) والدولة، وصار يترأس اجتماعات المكتب السياسي في غياب بريجنيف المريض. وتولّى أندروبوف بعد وفاة بريجنيف (1982) قيادة الحزب والدولة. كان ينوي أن يجري إصلاحات، لكن اعتلال صحته منعه من إجراء أي تغيير حتى وفاته، وكانت أفكاره (لم ينفذها) موضع توافق بين بوتين وجنراله (وزير الدفاع الحالي) سيرغي شويغو. وبسبب التقارب الفكري الكبير بين القيصر والجنرال، توافقا بيسرٍ شديد على الخوض معًا في دماء الشيشانيين والسوريين!
وبعد "أكاذيب منمّقة" كثيرة تداولها الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، ومن بعده بوتين، عن روسيا الجديدة، تبخرت الأكاذيب، ولم يبق للروس سوى: "الانضباط والنظام" بوصفهما المعتقدات الجديدة للمجتمع الروسي. وكلاهما من بصمات التكوين الاستخباراتي للقيصر والتكوين العسكري لجنراله، وكلاهما لم يكن مؤهلًا لأن يتحمّس لعقائدية الحزب الشيوعي أو "إصلاحية" غورباتشوف. وبعد شهر واحد من تعيين فلاديمير بوتين رئيسًا للوزراء في عهد بوريس يلتسين، بدأ الجنرال سيرغي شويغو أول خطوات الصعود السياسي. وفي تطابق تام مع منطق المستبدّين "عندنا وعندهم"، اعتبر الجنرال أن من ينتقد تصرفات الجيش الروسي في الشيشان يرتكب جريمة خيانة، وفي النهاية كوفئ شويغو على ولائه لبوتين بتعيينه نائباً لرئيس الوزراء.
الحملة الشيشانية التي جمعت بوتين وجنراله شويغو قدّمت أساساً أيديولوجياً لما بعد الاتحاد السوفييتي
وبمساعدة شويغو، يدعم بوتين إرث رئيس "كي جي بي" السابق يوري أندروبوف. وفي وقت مبكر (15 إبريل/ نيسان 1999)، وصفه بوتين بأنه "أحد أكثر القادة احترامًا"، ممتدحًا تركيزه على "الانضباط". وبتعبير آخر، أعاد بوتين إرث أندروبوف إلى الحياة. وبين الرجال الأكثر تأثيرًا في الدائرة الضيقة المحيطة ببوتين، كان هناك لسنوات عدد غير قليل من تلاميذ أندروبوف، وفي مقدمتهم الجنرال سيرغي إيفانوف، الذي أصبح لاعبًا رئيسًا في صياغة المذكرات بشأن مفهوم الأمن الروسي الجديد. وقد انزلق بوتين إلى المنحدر الحالي، عبر مسار بدأ بالقناعة بأن روسيا لا تزال بحاجة إلى "مخابرات أندروبوف"، وهو من أسّس "مجموعة ألفا لمكافحة الإرهاب"، لتصبح بعدها أجهزة أمن الدولة الحارس الفعلي للمصالح الوطنية للبلاد. وبحسب بوتين، الدولة القوية بالنسبة للروس هي "مصدر النظام والضامن، والبادئ والقوة الدافعة الرئيسة لكل تغيير"، وهناك "رغبة قومية في نظام أبوي". والحملة الشيشانية التي جمعت بوتين وجنراله شويغو قدّمت، لأول مرة، أساسًا أيديولوجيًا لما بعد الاتحاد السوفييتي للدولة الروسية.
وتفسّر هذه البنية، إلى حد كبير، طبيعة المطالب التي وضعها بوتين على الطاولة، وهي مطالب "معسكرة" بشكل مبالغ فيه، ما قد يشير إلى بصمات وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في الأزمة الحالية، وكلاهما تشاركا إعادة شبح يوري أندروبوف إلى الحياة. .. فهل تتسبّب الخدمة في أجهرة استخبارات النظم الشمولية في ظهور قياصرة من طراز بوتين؟