أوكرانيا التي تشبه كل ضحايا الإمبراطورية

02 مارس 2022
+ الخط -

الحياد بين الضحية الأوكرانية والمعتدي الروسي اصطفاف إلى جانب الظالم حتماً. ليس في هذا الكلام شعبوية ولا تبسيط ولا دعوة إلى فصل حدث بحجم الغزو الروسي عن مسار طويل أوصل إلى كارثة تتفاوت التقديرات بشأن مصيرها ما بين حرب عالمية أو استخدام السلاح النووي، وكلاهما يعني أن العالم، إذا ظل موجوداً، فإنه دخل في مرحلة لم يسبق له أن طرق أبوابها منذ انتهاء الحرب الباردة.

في خانة الخلفيات والينبغيات، نعم لا شك في أن حلف شمال الأطلسي بطلت حجة وجوده كتحالف عسكري عقائدي عند انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان يجدر حله منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. لكن الصحيح أيضاً أنه أمام رئيس دولة بحجم روسيا يهدد العالم مرتين في غضون أسبوعين باستخدام السلاح النووي، وأصبح حكمه المديد مرادفاً للحروب وللتخريب الضروريين لإحياء الإمبراطورية، فإن العالم بحاجة لتحالف عريض، على الأقل إلى حين تحقق حلم زوال السلاح الذري في العالم. في الخانة نفسها، نعم، إذلال الشعب الروسي (كإذلال أي شعب آخر) كان خطأً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ارتكبه المنتصرون في حينها، وقد سبّبه حكام موسكو السوفييتية وطغاتها الذين أهانوا شعبهم أكثر بكثير مما أهانه الغرب. نعم الأحادية القطبية الأميركية حقيرة، لكن أغلب الظن أن النظام الدولي كان سيكون أحقر بكثير لو كان محور المارقين الحاليين يحكم نصف العالم بحجة التعدّدية القطبية. لمخيلة شيطانية أن تتصور حال الكرة الأرضية لو كان للصين نفوذ سياسي أكبر، كذلك لروسيا ولإيران. لكان سلوبودان ميلوسيفيتش وصدام حسين وبشار الأسد وعلي خامنئي من بين أسياد العالم المشتهى.

بقدر ما أن الحرب الروسية على أوكرانيا مأزق ورّط فلاديمير بوتين العالم به نتيجة هلوسات إحياء الإمبراطورية، تفتح أعين من يرغب في أن يرى الحقيقة: ما يقترحه علينا هذا المحور هو القتل والحروب والتهجير إذا اتخذ شعب قرارات ليبرالية الهوى، لا تعجب "الأخ الأكبر"، كأن يرغب الأوكرانيون في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مثلاً وإلى أي إطار آخر يحميهم من طموح روسي جارف بإزالة بلدهم عن خريطة الدول الحرة.

يغزو بوتين منذ سنوات ما هو قريب أو بعيد ليكمل إخضاع بلدان "العالم الروسي" وإعادة الزمن عقوداً إلى الخلف. اقتطع منذ ثماني سنوات جزءاً كبيراً من أوكرانيا وضمه إلى روسيا (شبه جزيرة القرم). سلّح الناطقين بالروسية في منطقة دونباس فأشعلوا حرباً أهلية واخترع لهم جمهوريتين. فعلها قبلها في جورجيا (2008) والوضع ليس بعيداً عن التكرار في مولدوفا. وسّع إطار التمرين إلى سورية فلم يسمع الا تململاً غربياً سرعان ما حل مكانه صمت القبور. هناك، صوّروا لنا السوريين على أنهم تهديد لروسيا، كأن سورية كانت مرشحة للانضمام إلى الحلف الأطلسي أيضاً. ثم وجدت ماكينة غسل الدماغ الروسية "الترند" المناسب لأوكرانيا: يحكمها نازيون. نازيو أوكرانيا غريبو الأطوار إلى درجة أن يهودياً يرأسهم (فلوديمير زيلنسكي). ومن الذي يتهم أوكرانيا بالنازية؟ حكام روسيا. روسيا البوتينية التي لم تترك بلداً أوروبياً إلا دعمت فيه الحركات الشعبوية واليمينية المتطرّفة. روسيا التي تحكمها نخبة قومية شوفينية طليعية في صياغة خطاب التفوق العرقي وصدام الحضارات والأديان. لكن الغرب يستفيق ببطء لا يُطاق. أغمض أعينه عن الجريمة الروسية في سورية ولا يزال. فهناك بشر درجة رابعة، لا مسيحيون ولا شقر ولا عيون زرقاء ولا خبراء معلوماتية يقتنون أحدث أنواع السيارات.

لا وجود لـ"لو" في التاريخ، لكن لا بأس ببعض المخالفات: لو وُضع حد للجريمة الروسية في سورية، وقبلها في القرم وقبلها جورجيا، أغلب الظن ما كان لبوتين أن يقف اليوم أمام خريطة الكرة الأرضية، حائراً إلى أي بلد ينقل حربه المقبلة.