أوروبا ورعب ازدراء الديمقراطية
مسكينة "أوروبا العجوز"... خلال أشهر قليلة، فقدت الهالة التي أحاطت بها خلال ما يزيد على قرنين، نهضت خلالهما من رماد حربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن، بينما تبدو اليوم مختنقة، أكثر من أي وقت مضى، بغبار الحرب الأوكرانية. وعلى الرغم من أنّ العواقب الاقتصادية الوخيمة للحرب تمتد إلى جزء كبير من خريطة العالم، تظلّ أوروبا الأكثر تضرّراً، وتظلّ المخاطر التي تتهددها ربما غير مسبوقة. وما بدأ أزمة نفط وغاز في المقام الأول توسّع تأثيره حتى صار يهدّد ماكينات الصناعة الأوروبية، ويهدّد بالقدر نفسه حياة الناس اليومية، على حد سواء.
والجديد الذي بدأ يطل برأسه، أخيراً، أنّ السخط الشعبي الذي يتراكم، بسبب الأعباء الاقتصادية الناجمة عن الحرب وتداعياتها، مرشّح لأن يكون دافعاً لتحرّكات سياسية مـُخططة يستخدمها اليمين المتطرّف، لتكون وقود نار تستهدف الديمقراطية. وبعد تجربة تاريخية مريرة، بدأت في سبعينات القرن الماضي، واكتوى فيها الأوروبيون بنار الإرهاب اليساري المتطرّف المعادي للديمقراطية، تعود أوروبا لتواجه احتمال الاكتواء بنار إرهابٍ يمينيٍّ متطرف، مقولته الأساسية: "ازدراء الديمقراطية"!
من رفض الديمقراطية بناء على تصوّر أيديولوجي طبقي، وازدرائها بناء على رؤيةٍ يمينيةٍ فاشيةٍ تستثمر السخط، تبدو أوروبا في مواجهة كابوسٍ مخيف
وبحسب يورغ مولر، رئيس مكتب هيئة حماية الدستور الألماني (الاستخبارات الداخلية) في ولاية براندنبورغ الألمانية، فإن اليمينيين الألمان يحلمون بـ "شتاء الغضب الألماني" (موقع دويتشه فيلله 6 أغسطس/ آب 2022)، والتحذير الرسمي الألماني واضحٌ في أنّ اليمين الألماني يخطّط لاستثمار "السخط" الناجم عن عاصفة الركود التضخمي الكبيرة التي أطلقتها الحرب، وهم "يأملون أن تؤثر أزمة الطاقة والزيادات في الأسعار بقوة على الناس، حتى يتمكّنوا من استغلال الحالة المزاجية في ترويج تطلعاتهم المناهضة للدولة". وتكشف وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، عن مخاوف مماثلة من مواطنين هم غالباً متوافقون مع المتطرّفين اليمينيين، و"أعداء الديمقراطية ينتظرون فقط استغلال الأزمات"، وما بين الساخطين والمتطرّفين قاسم مشترك، هو "ازدراء الديمقراطية".
ومن رفض الديمقراطية بناء على تصوّر أيديولوجي طبقي، وازدرائها بناء على رؤيةٍ يمينيةٍ فاشيةٍ تستثمر السخط، تبدو أوروبا في مواجهة كابوسٍ مخيف. وكأنّ القارة العجوز لا تكاد تلتقط أنفاسها، فخلال القرن العشرين، واجهت الديمقراطيات الأوروبية سنوات طويلة تنظيمات مسلحة: تروتسكية وماوية وقومية متطرّفة، مثل بادر ماينهوف الألمانية، والعمل المباشر الفرنسية، والألوية الحمراء الإيطالية. وبعد فاصلٍ لا يقل دمويةً، حلّ فيه إرهاب ذو إسناد إسلامي، يعود الإرهاب ذو الجذور الحداثية ليطرق أبواب أوروبا تحت لافتةٍ يمينية.
المستهدفون بالتثوير، وربما احتمالية التجنيد، في حالة العنف اليميني المتطرّف أوسع بكثير من نظرائهم في حقبة الإرهاب اليساري
والسخط غير المؤطر نظرياً يشكّل خطراً قد لا تقل حدّته عن العنف المؤطر أيديولوجياً، وخرائط السخط العنيف يمكن أن تصبح أكثر تعقيداً، فالمستهدفون بالتثوير، وربما احتمالية التجنيد، في حالة العنف اليميني المتطرّف أوسع بكثير من نظرائهم في حقبة الإرهاب اليساري، والمتضرّرون من الأزمة الاقتصادية التي تخيم على أوروبا ليسوا طبقة عمالية أو فئة جيلية، بل أغلبية المواطنين في معظم دول أوروبا، وهذا يجعل الخطر أكبر وأكثر تعقيداً. وبعدما كانت الأدبيات التي تحذّر من فوضى تطلق شرارتها أزمات اقتصادية، تقارير عن "الدول المهدّدة بالاضطرابات" في عالم الجنوب/ الشرق، بعيداً عن الجنّة الأوروبية، المحصّنة، المزدهرة، الـمُلهمة، أصبحت صيحات التحذير تستشرف مآلاتٍ تبعث على التشاؤم في قلب أوروبا، وهذا تهديدٌ ربما هو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. ولأول مرة، منذ عشرين عاماً، تراجعت قيمة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) أمام الدولار، ما جعل الأزمة تتجسّد وتفرض نفسها حتى على أقل الأوروبيين اهتمامًا بالسياسة. ولعلّ مما لا يمكن إغفاله هنا أنّ التحذيرات، المشار إليها في بداية المقال، صادرة عن أجهزة أمن ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأكبر في أوروبا. وبالتالي، يتوقع أن يكون حجم الورطة في الاقتصادات الأقل ازدهاراً أكبر.
وازدراء الديمقراطية مصطلح رسمي ألماني جديد يشير إلى واقع جديد، وهو واقعٌ قد لا يكفي توقف حرب أوكرانيا لطيّ صفحته، فالخوف الذي أطلقته الحرب على أوكرانيا سيغيّر الأوروبيين، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، وسيعيد تنظيم فضاء الأفكار باتجاه منحى تشاؤمي، ولا يقتات العنف على شيء أكثر من التشاؤم بشأن المستقبل، والأمل ثمرة الأمن. والمتشائم إذ يفقد الأمل يصعب أن يكون مسالماً.
وسيبقى وباء "ازدراء الديمقراطية" مرشّحاً لمزيد من التفشّي، ما دام المواطن الأوروبي مُهدداً بشتاء قاس اقتصادياً، قارس البرودة مناخياً!