أوذيسة العلم والإنسان
غالباً ما أتفكّر في راهنيّة معاني (ودلالات) مشهد افتتاحي عبقريّ أبدعه المخرج الراحل ستانلي كوبريك في فيلمه الملحمي الشهير الذي يقال إنّه غيّر تاريخ السينما بشكل حاسم ونهائي "2001، أوذيسة الفضاء" (1968). نحن في صحراء أفريقية، مع انبلاج فجر البشرية، نراقب مجموعة من القردة العليا أو أشباه البشر تتعرّض لهجمات متكرّرة من مجموعة أخرى، ونتابع نزاعهما للاستيلاء على نقطة ماء. إلا أن اكتشاف زعيم المجموعة الأولى، إثر طردها، متراصّة أو صخرة مستطيلة سوداء قادمة من فضاء آخر، سوف يُلهمه استخدامَ أدواتٍ للهجوم والدفاع، هي حجارة وعظام يهاجم بها أعداءه ويُرديهم قتلى، وذلك قبل أن يقذف عظمته عاليا في الفضاء لنراها وقد تحوّلت، بعد أربعة ملايين عام، إلى مركبة فضائية تدور حول القمر على وقع موسيقى "نهر الدانوب الأزرق".
تختصر هذه الحركة ببراعة تاريخ البشرية، وهي لا تزال معبّرة بعد مضي أكثر من مرور نصف قرن على إخراج هذا الفيلم، إذ تحكي حال البشر اليوم وهم ينتقلون بسرعةٍ فائقةٍ من اكتشاف علمي إلى آخر، فيما لا يزال الإنسان غارقاً في متاهاته وتناقضاته وعدم قدرته على السيطرة على غرائزه أو على فهم ما يدور من حوله، فالإنسان، اليوم كما أمس كما غداً، ما زال مغموراً بأمواج نوازعه الحيوانية والعدوانية، حيال نفسه كما حيال الطبيعة والآخرين. العلم يتقدّم، بل إنّه يقفز قفزاتٍ عملاقة تضاهي بأهميتها سرعة انتقال الضوء، فيما نحن ندور حول ذلك الحجر العملاق الأسود، الكامن في نفوسنا، المثير والمخيف في آن، بغموضه وانغلاق أسراره، وبما يُرسله إلينا من إشارات متضاربة توحي لنا بارتكاب الأسوأ والأفضل على الإطلاق. تتطوّر المعرفة ويتقدّم العلم، فلا تتراجع الحروب، ولا يقلّ الإنسان جشعاً وإجراماً، ولا تنتهي مآسي المجاعة والعنصرية واستغلال القوي للضعفاء والمهمّشين، ولا تتراجع نزعةُ الاستبداد التي تقتضي ولا بدّ من الجانب الآخر "عبودية طوعية" كما سمّاها الكاتب الفرنسي إتيان دو لا بويسي، منذ القرن السادس عشر، واعتبرها الشرط لنجاح أفرادٍ طغاةٍ في مصادرة قرار الملايين وسلبهم حياتهم وحريتهم.
في "أوذيسة الفضاء"، يحقّق الدكتور فلويد سرّاً في المتراصّة المستطيلة السوداء التي تُصدر إشاراتٍ غريبة باتجاه كوكب المشتري، ثم بعد مضي عامين، يتوجّه رائدا فضاء نحو ذاك الكوكب البعيد على متن المركبة "ديسكوفيري"، يرافقهما "هال 9000"، الكمبيوتر الاستثنائي فائق الذكاء الذي لا يستطيع مخاطبة البشر ونقاش الأفكار فحسب، بل يبدو وكأنّه أكثر إنسانية في إبداء أمارات القلق والتساؤل حول أهداف هذه المهمّة والخطورة المحتملة لما يمكن اكتشافه على كوكب المشتري. تحدُث مشكلة ما على متن المركبة، فيرى الرائدان أنه خطأ "هال"، فيما يصرّ الأخير على أنه خطأ بشري. ولكي يتحادثا في الخفاء، ينعزل الرائدان في كبسولةٍ لكي لا يسمعهما الكمبيوتر الذكي. إلّا أنّ الذكاء الاصطناعي قادرٌ على قراءة حركة الشفاه، وهو ما سيجعل "هال" يتّخذ القرار بإنهاء حياة ركّاب المركبة لكي يتمكّن من إنهاء المهمة...
في مايو/ أيار 2023، قدّم جيفري هينتون الذي يعتبر "عرّاب الذكاء الاصطناعي" استقالته من "غوغل" لأنّه يودّ "التحدث بحرية عن مخاطره"، مضيفاً أنّه يأسف على عمله في هذا المجال، خصوصاً أنّه لا يستبعد أن يتمكّن الذكاء الاصطناعي من "القضاء على البشرية" ذات يوم، من دون أن يغفل ذكر الفوائد المهمة لأنظمته في المجالات كافة. إنما الخوف أن تضع هذه الأنظمة لنفسها أهدافاً مبطّنة لا تتطابق مع أهداف من برمجوها. من جانبه، حذّر صمويل ألتمان، مخترع "شات جي بي تي"، من مخاطر أنظمة الذكاء الاصطناعي هو أيضاً، مشيراً إلى أنّها قد تغيّر طريقة عيشنا، وأنّ على الحكومات أن تتدخّل للتخفيف من مخاطرها.