أمين عام لاتحاد المغرب العربي: السياسي في خدمة الدبلوماسي
جعل السياسي في خدمة الدبلوماسي، وليس العكس، خصوصية تونسية، تجلّت بعد "25 يوليو" (2021) واستفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم. ذلك أنّ السياسة، بما تعنيه من تنظّم وتحزّب وتطوّع، ومن خدمة للشأن العام، ومن المشاركة في المعارك الكبرى؛ الوطنية والإقليمية والدولية ونظيراتها الداخلية الجهوية والمحلّية، من بوّابة تولّي السلطة وإدارة الدولة، وتقديم التضحيات الجسام، وخوض معارك النضال من أجل الفِكَرِ والمبادئ والقناعات، صارت أمراً منبوذاً ورجساً مهجوراً ووصماً مذموماً وفعلاً مدحوراً، لدى حكّام تونس الجدد، وفي عالم السياسة التونسية الرسمية للزمن الراهن. وأصبح الحكم وتسيير الدولة سبيّة لدى جمهور الفنّيين المتهافتين على عالم السياسة والسياسيين، وانتحال الصفة، من بوابة التكنوقراط، ممن لا صفة ولا فهم لهم ولا تفسير لنشأة الدول، ونواميس بقائها وتطوّرها، وكيفية إدارتها والحفاظ عليها من طريق البرامج والاستراتيجيات والكفاءات، والنأي بها عن الفتن والمؤامرات، وما قد يلحقها من تصدّعاتٍ وانهيارات، تعجّ بها الإدارة التونسية والمؤسّسات الدولية، مُشكّلين منبعاً وحيداً لتولّي المسؤولية، خاصّة بعد أن طهّر سعيّد حكومته من وزيرَي الداخلية كمال الفقي والشؤون الاجتماعية مالك الزاهي، آخر سياسيَين جاد بهما فريقه التفسيري، الجهاز الأيديولوجي والتنظيمي للحكم، ممن يُصطلح عليهم أبناءَ المشروع أو المسار.
على تلك الأرضية المناوئة للسياسة والسياسيين، وما تمنحه معاهدة مراكش، واللوائح الداخلية المنظّمة لعمل الاتحاد المغاربي من أحقيّة لتونس، نشرت وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين في الخارج في 27 مايو/ أيار الحالي بياناً مقتضباً، جاء فيه: "وفقاً لمقتضيات معاهدة تأسيس اتحاد المغرب العربي لسنة 1989، وباقتراح من سيادة رئيس الجمهورية قيس سعيد، وبعد موافقة جميع قادة الدول الأعضاء في الاتحاد، تقرر تعيين الدبلوماسي التونسي طارق بن سالم أمينا عاما لاتحاد المغرب العربي لمدة ثلاث سنوات بداية من 1 جوان 2024". ووفق ما رَشُحَ من دوائر المجلس الرئاسي الليبي، ونشرته الصحافة الليبية، كانت تسمية الأمين العام الجديد لاتحاد المغرب العربي ثمرة اتّفاق غير مُعلَن، جرى التوصّل إليه على هامش القمّة الثلاثية التشاورية التي جمعت الرئيسين التونسي قيس سعيّد والجزائري عبد المجيد تبّون ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي في تونس، 22 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، وسجّلت غياب موريتانيا، ومقاطعة المغرب، رغم أنّه أُريد لذلك اللقاء أن يكون بديلاً عن اتحاد المغرب العربي، الذي يعيش حالة موت سريري بسبب معضلة الصحراء الغربية. فمن المستبعد أن يكون الاتفاق على الأمين العام المغاربي الجديد جاء نتيجة حوار مباشر بين السلطات الجزائرية ونظيرتها المغربية، بسبب قطع العلاقات بينهما منذ أغسطس/ آب 2021، أو نتيجة اتصالات مباشرة بين تونس والمغرب، لما عليه علاقات البلدين من أزمة وبرود أفضت إلى سحب السفيرَين منذ قرابة السنتَين، على خلفية مشاركة زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، في قمّة تيكاد اليابانية - الأفريقية بتونس نهاية أغسطس/ آب 2022.
من المستبعد أن يكون الاتفاق على الأمين العام المغاربي الجديد جاء نتيجة حوار مباشر بين السلطات الجزائرية ونظيرتها المغربية
وقد شكّلت زيارة سامي المنفي، شقيق رئيس مجلس الرئاسة الليبي، الرباط بـعد 24 ساعة بعد نهاية القمّة التشاورية الثلاثية، حاملاً رسالة مكتوبة من محمّد المنفي إلى ملك المغرب محمّد السادس، ولقاء وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة، الإطار الذي عولجت فيه مسألة تسمية أمين عام جديد لاتحاد المغرب العربي، خاصّة وأنّ الأمين العام، المنتهية مهامّه، الطيب البكوش، قد تجاوز الفترة الثانية من ولايته بسنتَين، مستمرّاً على رأس الاتحاد ثماني سنوات، ناهيك أنّ علاقته بالجزائر شهدت توتّراً شديداً وقطيعة نتجت من تعيين المغربية أمينة سلمان مُمثّلةً دائمةً للاتحاد لدى الاتحاد الأفريقي، وهو ما تحفّظت عليه الجزائرُ لعدم التشاور معها، وكذلك، بسبب تصريحات يَتّهم فيها البكوش السلطات الجزائرية بعرقلة العمل المغاربي وعدم تسديد ما عليها من ديون ومساهمات لمصلحة الاتحاد المغاربي.
الأمين العام الجديد، التونسي طارق بن سالم، مولود في سوسة سنة 1960، وحاصل على الأستاذية في القانون العام من جامعة باريس سنة 1984، ودبلوم المدرسة الوطنية للإدارة بتونس، ما يشي بخبرة بالعمل الدبلوماسي بدأت في 1990، مع استتباب أمر الحكم للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وامتدّت 34 سنة. خلال هذه الفترة، تقلّب بن سالم في عدّة وظائف في وزارة الخارجية التونسية أو في إحدى بعثاتها الدبلوماسية. انطلقت مسيرة الرجل رئيسَ قسمٍ بالإدارة العامّة للتعاون مع أوروبا (1990-1991)، ثمّ تولّى الوظيفة نفسها في إدارة اتحاد المغرب العربي (1991-1992). بعد ذلك، تولى وظائف رفيعة في الخارجية وسفارات تونسية في أوروبا. بعد سقوط نظام بن علي سنة 2011 وحتَّى 2015، عُيّن الدبلوماسي المخضرم سفيراً لتونس لدى مالي والنيجر وبوركينا فاسو مع الإقامة في باماكو، وأثناء الفترة 2016 – 2019، اشتغل مستشاراً دبلوماسياً لدى رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وقبل وصول قيس سعيّد إلى كرسي الرئاسة، بأيام، عيّنه الرئيس المُؤقّت محمّد الناصر مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2019 سفيراً لتونس في موسكو، واستمرّ في مهمّته حتَّى 2024.
المُؤهّلات الدبلوماسية ستكون غير كافية ليتمكّن الأمين العام الجديد من لعب دور الوسيط المُؤثّر القادر على لمّ الشمل، وردّ الاعتبار للفكرة المغاربية
ومن الواضح أنّ تسمية بن سالم أميناً عامّاً لاتحاد المغرب العربي لم تتأثّر بمقولة الرئيس سعيّد، وشعار حكمه المركزي منذ 25 يوليو (2021)؛ "لا عودة إلى الوراء"، فمسيرة الرجل المهنية وتجربته الدبلوماسية تنتمي كلّها إلى الوراء، وقد عرفت أوجَها في أثناء فترة حكم بن علي، الذي انتفض ضدّه الشعب يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، وأسقطه يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وفي أثناء عشرية الثورة التونسية 2011-2021، التي يصفها الخطاب الرسمي بـ "العشرية السوداء"، وبلغت تلك المسيرة حدّ تولي أعلى المناصب بقصر القصبة، وهو منصب مستشار لدى رئيس الحكومة.
وعلى عكس سابقيه من الأمناء العامّين، وقد كانوا جميعاً أعضاءَ حكوماتٍ، ولعبوا أدواراً حزبيةً وسياسيةً، وهم: محمد عمامو (1991-2002)، وقد تولى خطّة كاتب دولة للخارجية في حكومة حامد القروي سنة 1989، والحبيب بولعراس (2002-2006)، الوزير المخضرم في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، ورئيس مجلس النواب والمؤرخ والصحافي والقيادي بالحزب ّ الدستوري منذ الخمسينيات من القرن الماضي، والحبيب بن يحي (2006-2016) وزير الدفاع والخارجية في حكومات بن علي، وأخيراً، الطيب البكوش (2016-2024)، وقد تولّى حقيبتَي التربية والخارجية، والأمانة العامّة لحزب نداء تونس بعد 2011. على عكس أولئك جميعاً، الأمين العام الجديد لاتحاد المغرب العربي مُبهم التوجّه العام، فهو لم يخض تجاربَ سياسيةٍ، ولا توجد له كتابات ومؤلّفات أو تصريحات يمكن من خلالها معرفة ميولاته السياسية ورؤيته للقضايا العامّة الوطنية والدولية.
تبدو آثار بصمة وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج نبيل عمّار واضحةً على تسمية طارق بن سالم، فقد استطاع الوزير أن يقنع الرئيس سعيّد بأن تكون المهام والوظائف الخارجية ذات الطبيعة الدبلوماسية والإقليمية والدولية حكراً على أبناء وزارته، وذلك منذ تولّيه الوزارة في السابع من فبراير/ شباط 2023، معتمداً مقاربة؛ الدبلوماسي هو من يصنع السياسة. إذ لا يبدو وجودُ سابق معرفة من الرئيس بالمترشّح لتولّي الخطّة المغاربية، إلا أنّ المقاربة المُعتمدة في التسمية تنسجم حدّ التماهي مع مقاييس الرئيس التونسي في اختيار المسؤولين الأول في الدولة أو في تمثيلياتها في الخارج، ومن أبرزها أن يختار المسؤولين من بين الموظّفين الإداريين أو الدبلوماسيين أو القضاة، الذين تخلو سِيَرُهم المهنية من أيّ تجربة حزبية أو انتماء سياسي أو أيديولوجي.
طارق بن سالم مُقبلٌ على تولّي إحدى أعسر الوظائف الإقليمية، في ظلّ العجز المغاربي عن إيجاد حلّ لقضية الصحراء الغربية شديدة التعقيد
الأمين العام الجديد للاتحاد المغاربي مُقبلٌ غداً (1 يونيو/ حزيران) على تولّي إحدى أعسر الوظائف الإقليمية، في ظلّ العجز المغاربي عن إيجاد حلّ لقضية الصحراء الغربية شديدة التعقيد، فهي تحتلّ المرتبة الثانية بعد القضية الفلسطينية في التدخّل الأممي، من دون تقدّم يُذكر، وما يدور بسببها من نزاعات ومواقف باتت محدّدة في العلاقات البينية بين الدول المغاربية الخمس، وفي علاقة بعض هذه الدول بدول أخرى في أوروبا وأميركا وأفريقيا، فكلّما صار تقارب بين الجزائر ودولة ما يقابله جفاء مغربي مع الأخيرة، والعكس صحيح. وبعد سنوات من الصراعات المعلنة والخفية بين المغرب والجزائر بسبب مشكلة الصحراء، وتأثير ذلك على باقي الدول في المغرب العربي، وانخراط المغرب في لعبة التطبيع المنبوذة مغاربياً، لم يعد الطموح تفعيل مضامين اتفاقية اتحاد المغرب وبناء المؤسّسات المشتركة وفتح الحدود أمام تنقّل المغاربة وتدفّق السلع والأموال، لبناء التنمية وتحقيق النمو، وإنّما بات الأفق لا يتجاوز نزع فتيل الأزمة المغاربية المزمنة، حتَّى لا تتحوّل إلى حرب تحرق كلّ أسباب الحياة، بين الأشقّاء، شركاء الانتماء واللسان والدين والتاريخ وأسرى ديكتاتورية الجغرافيا.
ستكون المُؤهّلات الدبلوماسية غير كافية ليتمكّن الأمين العام الجديد من لعب دور الوسيط المُؤثّر القادر على لمّ الشمل، وردّ الاعتبار للفكرة المغاربية، كما رُسِمَتْ ملامحها في مؤتمر الحركات الوطنية المغاربية في طنجة سنة 1958، وكما صيغت سياسياً وقانونياً في قمّة التأسيس التاريخية في مراكش سنة 1989. وسيكون في حاجة إلى دراية وخبرة ومرونة سياسية تصنع منه سياسياً محنّكاً قادراً على الإقناع والفعل المغاربي المتسامي على التناقضات والصراعات القُطرية، حتّى ينجح في مهمّته، وليس مُجرّد دبلوماسي صغير جيء به، بعد أن تجاوز سنّ التقاعد بسنتَين، من أجل الحصول على مزيد من الامتيازات المالية والعينية، والمكانة الاجتماعية، والوجاهة السياسية. ففي تولي الأمانة العامّة لاتحاد المغرب العربي، في هذه المرحلة الدقيقة مسؤولية أخلاقية، ورسالة مُقدّسة، وعمل سياسي وغير سياسي مُضن وجسيم، في ظلّ عالم تُقرع طبول الحرب بين كبرائه الاقتصاديين والماليين والعسكريين، وتتكتّل قواه الإقليمية من أجل البقاء والحفاظ على الوجود. ولتحقيق هذا الهدف السامي وبعث الأمل في المغرب العربي الكبير، سيكون من أولويات الأمين العام الجديد عدم الاكتراث للقاء التشاوري الثلاثي في تونس في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، وتجاهل مخرجاته مشروعاً بديلاً عن اتحاد المغرب العربي، رغم أنّ ذلك اللقاء له الفضل في أن يكون طارق بن سالم أميناً عامّاً للاتحاد المغاربي.