أميركا والدولة العميقة
بدأت أميركا القرن الحالي مع رئيس جمهوري، هو جورج بوش الابن، الذي وجد نفسه أمام هجمات "11 سبتمبر" غير المسبوقة، فتعامل مع الأمر وكأن حربا شنّت على الولايات المتحدة. ردّ بشكل عشوائي، وغيّر قليلا في سياسة أميركا مع الشرق الأوسط، وزعزع بعض القيم التوافقية التي كانت سائدة .. بدا بوش حينها الرجل الذي يتخذ القرارات بنفسه، بعد مراجعة مستشاريه. وفي لحظة ما، ظهر التردّد عليه، وبدأت ارتدادات الحملة العسكرية التي شنها ضد العراق تظهر بوضوح على أميركا، فسارعت الهيئات التشريعية، بما تملكه من سلطات دستورية، إلى تأليف لجنة سياسية ضمّت مسؤولين من الدرجة الأولى من كلا الحزبين لتقدّم توصياتها ونتائجها للرئيس والرأي العام الأميركي.
لا تعني تلك التصرّفات السياسية التي قامت بها مؤسسات الرئاسة والكونغرس أن هناك قوى خفية تعمل تحت السطح، وتوجه السياسة الأميركية، بما يعرف بالدولة العميقة، فما قام به الرئيس المنتخب كان من موقعه السياسي، ومن مرجعيته الحزبية، وبناء على توصيات مستشاريه الذين وجدوا أن عليه شنّ الحروب. وفي المقابل، اقترح أحد أعضاء المؤسسة التشريعية، ينتمي إلى حزب الرئيس، تشكيل لجنة سياسية للدراسة وتقديم اقتراحات، حين وجد أن قرارات الرئيس يمكن أن تعدّل، أو يتم تطويرها لتناسب المصلحة العليا الأميركية أكثر. وهذا ما حصل، فقدّمت اللجنة تقريرا وتوصيات جرى اعتمادها وتنفيذها بشكل كامل، بما يعني أن المؤسّسة تقوم بعملها وفق بروتوكول محدّد، وانطلاقا من موقعها، منتخبة كانت أو معينة.
مفهوم الدولة العميقة يوظِف، من دون قصد، نظرية المؤامرة، ويفترض أدوارا أساسية وحاسمة خفية. ومن دون توضيحاتٍ كافية، قد يشير كثيرون، بصورة عابرة، إلى دور أجهزة أمن وشركات سلاح ونفط ومنتجات أخرى، مع غيابٍ كبيرٍ في المعلومات حول آلية عمل كل هذه الهيئات مع بعضها ضمن دائرة واحدة، ومن دون تبيان لكيفية ائتلاف هذه الجهات، لتصدر قراراتها ولآلية توصيل القرار إلى الجهة المنفذة .. لا يلغي المقال وجود جماعات الضغط، وهي كيانات فاعلة، لكنها ليست جهة واحدة، ولا ترسم سياسة موحدة، فلوبيات كثيرة عاملة في أميركا تستطيع الوصول والتأثير، بدرجات متعدّدة، في مصدر القرار، من دون القدرة على اتخاذه. ووضعه موضع التنفيذ، وكثير من هذه اللوبيات متناقضة ومتضاربة، ومدى قوتها متفاوت، ويرتبط بقدرتها على التأثير الانتخابي، حيث تقاس فعالية اللوبي بإمكاناته في تقديم التبرّعات، أو حشد الأصوات، أو المساهمة في تحريك أرقام الاقتصاد إلى الأعلى.
عدم وجود دولة عميقة لا يعني أن الولايات المتحدة دولة سطحية، بل يعني أن آلية عمل المؤسسات المختلفة مضبوطة ومتناسقة، بحيث يضمن الدستور عدم التناقض أو التضارب. وقد توحي قوة المؤسسات الرسمية الأميركية، وخصوصا مؤسسة الرئاسة، بوجود مثل هذه الدولة. ويعزّز هذا الشعور مدى تحكم أميركا في الخارج، ومدى طول ذراعها العسكري والاقتصادي، فهذه العجلة السياسية والعسكرية الضخمة التي تطاول كل أركان الكرة الأرضية قد تشعل المخيلة، بوجود قوة ما غير مرئية تحرّك الأشياء، فيما يمكن الاستنتاج من السياسات الأميركية أن من يحكم هو المؤسسة، وليس الشخص الذي يمثلها. وقد يكون نجاح مراسم تنصيب جو بايدن مظهرا آخر لقوة المؤسسة، فلم يعرقل غياب دونالد ترامب عن تلك المراسم، تسلم الرئيس الجديد كامل مهامه، وهذه المؤسسات تلتزم بتقاليد تعود إلى زمن الرئيس الأميركي رقم واحد، ولم يسجّل التاريخ اختراقات مهمة، ولا يجب اعتبار الشغب الذي سبّبه مناصرو ترامب حول مبنى الكونغرس دليلا على وجود أي أمر غير طبيعي. بالعكس، هذا الشغب جزء من العملية الديمقراطية التي تسمح بالتظاهر الذي استغله متهوّرون لإظهار موجة عالية من الاعتراض، وجرى تجاوز ذلك بسهولة، وبايدن يجلس في البيت الأبيض بشكل دستوري، أربع سنوات مقبلة.