أمجاد البكالوريا وأوهامها في تونس
يستقبل التونسيون، في أيام الصيف القائظ، نتائج البكالوريا (الثانوية العامة) بكثيرٍ من الفرح والضجيج. وعقودا عديدة، جرى ما يشبه ترسّب أحلام الناس الاجتماعية كلها، وحبسها على هذا الاختبار الذي ارتقى إلى مرتبة الأسطورة. لم يعد الأمر مجرّد نجاح لختم دراستهم الثانوية، إنه أكثر من ذلك بكثير. عمدت مجتمعاتٌ عربيةٌ وغربيةٌ كثيرة، في العقود القليلة الفارطة، إلى إلغاء هذا الامتحان، وتعويضه بأشكال أخرى من التقييم. ومع ذلك، ظلت البكالوريا التونسية صامدة في وجه كل التغيرات. وقد يعود الاحتفاء المبالغ فيه بهذا الاختبار الذي يسمّيه التونسيون الامتحان، بما كل في الكلمة من توجّس وخوف ومجازاة وعقاب، إلى تعويلهم على ثأر رمزي من مصعد اجتماعي لم يعد يأبه في صعوده الصاروخي بالعلم والمعرفة. ثمّة أمجادٌ اجتماعيةٌ أخرى صنعت مجد الناس من خارج التعليم، بل على حسابه: الهجرة، مهن الاقتصاد الموازي، نجوم الكرة، الراب، ومهن الاستعراض الافتراضي، إنستغرام وتيك توك ... إلخ.
تتعالى زغاريد العائلات في كل الأحياء معلنةً عن نجاح الأبناء. تدوم حالة الانتشاء أياما معدودة، حتى تبدو سلسلةٌ أخرى من الامتحانات لا تقلّ ترقّبا وألما وخيبة من كل الامتحانات التي سبقتها. إنها اختبارات التوجيه الجامعي الذي يحدّد مصير هؤلاء الفتيان وعائلاتهم. عادة ما يتم إدخال كل الناجحين في غابةٍ من المعطيات الدقيقة داخل منظومة من الحواسيب الضخمة والمعقدّة لتقرّر، في الأخير، فرزهم وانتقاءهم وتوجيههم إلى شعب التعليم العالي وتخصّصاته، حسب "معدّلاتهم" التي وصلوا إليها في امتحان البكالوريا. ثمّة مهنٌ عديدة في تونس، تُعنى بهذا التوجيه الجامعي، ولكنها تظل عاجزة عن فعل أي شيء أمام تلك الحواسيب الضخمة التي ستوجّههم غير عابئة برغباتهم وأشواقهم. هناك عثراتٌ عديدةٌ قد تحدُث في أيام البكالوريا ستغيّر مجرى حياة الفرد بشكل دراماتيكي. في أنظمة أخرى، ابتكرت أشكال عديدة من حسّ مرهفٍ يودّ أن يمنح هؤلاء الشباب فرصا أكثر إنسانية لهذا التوجيه: أن يتبارى الناس مجدّدا على شُعَبٍ بعينها بقطع النظر عن نتائج البكالوريا، أو أن يراعى في ذلك كفايات التلميذ خلال كامل مرحلة ما، وعدم الاقتصار على امتحان البكالوريا... إلخ، بحثا عن الإنصاف، ولكن التونسيين ظلوا مستسلمين لتلك الحواسيب قدرا لا يُظلم.
يصالح التونسيون نظاماً تعليمياً يُثبت، من سنة إلى أخرى، أزمته المستفحلة
توزّع تلك الحواسيب التي تشتغل ببرودة قاتلة التلاميذ الناجحين إلى ثلاث مجموعات، يتم ترتيبهم أيضا حسب معدلاتهم: المتميّزون، الجيدون، المتوسطون. وإذا كانت شُعب الطب والصيدلة والهندسة الدقيقة والمعمار هي التخصّصات التي تكون حكرا على المجموعة الأولى، فإن شُعب الإدارة والاقتصاد والحوسبة تظلّ في متناول المجموعة الثانية، الإنسانيات والآداب والفنون، فهي لمن تبقّى. هذه التراتبية التي تحجز للشبّان مقاعد مغلقةً مسبقا تصيب سنويا عشرات الآلاف منهم بالإحباط والغُبن. يفرحون بحصولهم على شهائد البكالوريا ثم يجدون أنفسهم ضحايا هذا التوجّه والفرز الآلي الذي لم يستشرهم، ولم يستمع إلى أمنياتهم وتطلعاتهم ورغباتهم. وفي خضم كل هذا الماراثون الذي يخوضه الطلاب، ومعهم عائلاتهم، في عطلة الصيف، وهم يهرولون من حاسوب إلى حاسوب، ومن إدارة إلى أخرى، يتناسى التونسيون أمراض المدرسة، ويصالحون نظاما تعليميا يُثبت، من سنة إلى أخرى، أزمته المستفحلة.
من يصدّق أن مجتمعا بأكمله يحبس أنفاسه على وقع نتائج البكالوريا، ومدرسته من الابتدائي إلى الجامعة، تتذيل التقييمات الدولية لجودة التعليم؟ في الوقت الذي تتعالى فيها زغاريد العائلات وتفيض التباريك على صفحات الشبكات الاجتماعية للتواصل ومئات آلاف العائلات، تحجز نقابات التعليم الأساسي أعداد التلاميذ، وتحجُب عن عائلاتهم عنوةً نتائج آخر السنة. تواصل ليّ الذراع بين الوزارة والنقابة لأكثر من موسم دراسي، من دون أن تفضي المفاوضات إلى أي حلّ.
زمن اعتبار المدرسة جهاز بروباغندا ولّى إلى غير رجعة
منذ أكثر من عشر سنوات، وتحديدا بعد الثورة، طرحت مسألة إصلاح التعليم العالي بحدّة، وتشكّلت كل سنة عشرات اللجان، وصيغت كتب بيضاء، غير أن لا أحد استطاع أن يتجاوز تلك العتبة. كان الرهان أيديولوجيا سياسيا، تتصارع فيه النقابات اليسارية القومية التي لم تر في المدرسة سوى ساحات معارك تودّ من خلالها الاستحواذ على عقول التلاميذ وخصخصتها لفائدة منظوماتها العقائدية الشمولية. لا يدرك هؤلاء أن زمن اعتبار المدرسة جهاز بروباغندا قد ولّى إلى غير رجعة، وأن لا أحد اليوم في استطاعته، حتى لو صاغ بمفرده المقرّرات المدرسية كلها، أن يضمن إنتاج تلاميذ يكونون امتدادا لأيديولوجيّته المبثوثة في طيات الكتاب المدرسي، لسبب بسيط، انفجار أوعية المعرفة، ففي كل البيوت، حتى تلك المنحدرة من أوساط اجتماعية شعبية، عشرات الأجهزة المفتوحة على تدفقات عالية من المعلومات والمعطيات والقيم التي تنافس العائلة والمدرسة عموما على تنشئة الأطفال على قيم ورؤى ومعايير. حين أرى الفتيان وهم يغنّون أغانيهم المفضّلة ويلبسون ثيابهم المنتقاة بعناية، ويأكلون أطباقهم المشتهاة، أتيقّن، أكثر من أي وقت مضى، أنهم وقد اختاروا ما اختاروا كل تلك الأذواق والتصوّرات والتمثلات والقيم، لم يستشيروا عائلاتهم ولا مدرّسيهم، إنما فعلوا ذلك اهتداءً بتوجيهات شبكات التواصل الاجتماعي.
سيكون من غير المناسب اجتماعيا الصراخ في وجه التونسيين الذين سيدخلون مع الإعلان عن نتائج البكالوريا حالة هستيريا. وما زالت أفراح البلد بهذه النتائج تخفي كل أزمات التعليم وخيباته وهي ترقص على أنغام أغنية العندليب الأسمر "وحياة قلبي وأفراحو...".