أمة كروية واحدة
مرّة أخرى، تثبت بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر، التي تختتم آخر مبارياتها مطلع الأسبوع المقبل، ما نتناساه أحياناً، نحن العرب، في خضم مشكلاتنا العامة والخاصة، والخلافات التي تقع بين حكومات دولنا أحيانا، وتعلن على نحوٍ غير مباشر ما يجهله كثيرون في العالم من خصائص تجمع أبناء الأمة العربية الواحدة بوشيجة قومية واحدة، بقيت، على الدوام، عصية على كل محاولات تفكيكها.
نعم، نحن أبناء أمة عربية واحدة، نعرف ذلك بالوجدان وبالإحساس على ما درسناه في المدارس، ونحن نتعلم رسم خريطة الوطن العربي، ونلوّنها بالألوان المختلفة. وفي كل المباريات التي خاضتها الفرق العربية الأربعة التي وصلت إلى هذه البطولة، كان العرب جميعاً، وفق ما رصدته وسائل الإعلام الجديد من مقاطع عفوية مصوّرة للجماهير في كل مكان، يتّحدون خلف الفريق الذي يلعب، صغاراً وكباراً، ليكون هو فريقهم الخاص. فعندما لعب المنتخب القطري مبارياته، أصبح كل العرب قطريين، يشجّع من في الملاعب منهم الفريق بحماسةٍ شديدةٍ، كما يفعل البقية خلف الشاشات في كل مكان. وهكذا الأمر مع المنتخب السعودي الذي زرع الفرح في كل أنحاء الجسد العربي، عندما فاز في مباراته الأولى على فريق الأرجنتين، على نحو فاجأ كثيرين، ما جعل الفرح يتضاعف والإحساس بالانتماء إلى الجسد العربي يتملك حتى من لم يكن يشعر بذلك. ولم يقلّ ذلك الإحساس في بقية مباريات الفريق السعودي، والأمر نفسه حدث مع الفريق التونسي في كل مبارياته التي خاضها. أما الفريق المغربي، فقد كان الأمر معه مختلفاً، وخصوصاً أن نتائجه كانت مبهرة جداً، ما جعل الوقوف خلفه حالة عامة، أحيت في النفوس الكثير مما مات من مشاعر عربية موحدّة.
كان من المثير، على سبيل المثال، أن تنتشر مقاطع للجمهور الجزائري، وهو يقف على الحد الذي يفصل ما بين الجزائر والمغرب، مردّداً الأهازيج التي تحمل الفرج بنتائج الفريق المغربي. ومكمن الإثارة يعود إلى حالة الجفاء بين الحكومتين، الجزائرية والمغربية، فحالة الإحساس بالوحدة العربية تجاوزت تلك الخلافات، ولم تعترف بها، ما جعلنا نشكّ في أي خصومة تشير إليها وسائل الإعلام الرسمية بين بلد عربي وآخر. وبدلاً من ذلك، سنصدّق كثيراً هتافات التشجيع التي انطلقت في الشوارع الفلسطينية فرحاً بالإنجاز السعودي. وسنرفع أيدينا مع أيدي الشعب السوداني التي ارتفعت بالدعاء، مصاحبة لهجمات الفريق التونسي داخل ملعب الخصوم. وسنرقص مع المصريين الذين رقصوا حتى الصباح بهجةً بانتصارات الفريق المغربي. ولن نتعجّب من الأطفال الكويتيين الذين أصرّوا على أهاليهم أن يبحثوا لهم عن قمصان الفرق العربية المشاركة لارتدائها في كل مباراة من مباريات تلك الفرق، حتى وإن كانت النتيجة، في النهاية، الخسارة.
وهكذا تتكرّر الحالات والحكايات التي قد يتعجّب منها غير العربي، ويفاجأ بأنها واقعية وحقيقية، وما زالت ساخنةً تجري في عروق كل عربي. بل ربما فوجئ بوجودها بعض العرب أنفسهم تحت وطأة إيمانهم بنظرياتٍ انفصالية أفشلها الواقع الحي.
لا تهم نتيجة المباريات، ما دمنا قد شعرنا بالاطمئنان مرة أخرى على حال الدم الواحد في عروقنا، واللغة الواحدة التي نتكلمها، والتاريخ الذي يبدأ واحداً وموحّداً قبل أن يتفرّع بتفرعات الخريطة الجديدة.
لن نقلق أبداً، ولن نحتاج نظريات سياسية واجتماعية تحاول تفسير الحالة التي تؤطّرنا في إطارها، فنتيجة المشتركات لا تحتاج إلى دليل، ولا إلى تفسير. لكننا بعد أن رأينا هذا التطبيق العملي لحالة القومية العربية، في إطارها الرياضي على الأقل، أصبحنا بحاجةٍ لتأكيد معطيات هذه الحالة ومراقبة تداعياتها، حتى لا نسمح لأي طرفٍ يحاول أن يخدشها أو أن يشوّهها بالمضي إلى الأمام، فما أفصحت عنه الكرة في مشاعر الجماهير على المدرّجات لا ينبغي أن يتلاشى خارج الملعب.