أفغانستان: عاشت القضية مات الإنسان
لا تنقص عالمنا أمثلة عن الانقسام العمودي ما بين الإنسان، كهدف قائم بذاته ومستقل بمصالحه وحرياته من جهة، والقضايا المطلقة التي لا يكون فيها البشر إلّا أداة لتأكيد صحة شعارات من ناحية ثانية. أفغانستان ربما تكون المختبر الأوضح والأكبر والأكثر مأساوية وامتداداً عبر التاريخ لهذا الشقاق. في ذاك البلد، تمّ تجريب كلّ أنواع العقائد والأيديولوجيات والأنظمة والحروب، دوماً باسم القضايا المطلقة التي لا تحتمل نقاشاً أو نقداً أو مراجعة، والنتيجة ظلت واحدة: أفغانستان أسوأ مكان للعيش على وجه الأرض، على الأقل منذ نصف قرن. تخبرك معظم المؤشّرات التي ترصد ظروف العيش أنّ هذا البلد الذي وقعت عليه لعنة الجغرافيا في هذه البقعة الجافة والوعرة من العالم، والمحاصر ببلدان تدهس كلّ ما هو أصغر منها (إيران وباكستان والهند والصين والاتحاد السوفييتي سابقاً)، مشهور بأمور ثلاثة: مهاجروه، المنتشرون تاريخياً في إيران وباكستان خصوصاً، ثم بلدان أوروبية حديثاً، وبحضاراته التي اندثرت بحروب إبادة، ثم بالمخدّرات، مصدر تمويل كلّ قتال، وتمويل أغلبية الحكام. في حروب هذا البلد، ظلت القضايا المطلقة تؤرّخ يومياته: تحويل بلد لا إنتاج فيه ولا وسائل إنتاج، وبالتالي لا قيمة مضافة، إلى مصنع متخيَّل للشيوعية. تأمين ظهر الثورة الخمينية في إيران. كسر الاتحاد السوفييتي لأنّه توسعي بالنسبة لأميركا، وماركسي بالنسبة للصين الماوية، وملحد بالنسبة لكتلة دول إسلامية، خليجية خصوصاً (وباكستان طبعاً)... وكلّ ذلك أين؟ في أكثر بقعة جغرافية عزلة وفقراً في العالم. ثم تأتيك قضية إقامة خلافة إسلامية لا يكفّ "مفكروها" المجاهدون أولاً ثم الطالبانيون عن تسميتها "حقيقية" وقد قرر هؤلاء كسر "أميركا الكافرة" وجبروتها وبرجَيها التوأمين حتى وهي بعيدة عن "الإمارة" وكلّ ذلك من أين؟ من أكثر منطقة ينقضها الغذاء والماء وكلّ شروط تتيح تسمية الحياة حياةً.
بين تلك العناوين، ظلت القضية الأم حاضرة: التحرير من الاحتلال. وللاحتلال في أفغانستان آباء كثر، أكثرهم تقدماً في السنّ يبقى الأميركي الذي يترك الأرض اليوم بعد عشرين عاماً، ساحة مفتوحة لغزو محاربي "طالبان". هؤلاء، كلما حاول أحد تجميل صورتهم وإقناعنا بأنّهم "تغيّروا" وراجعوا حساباتهم، وأنّهم أصبحوا معتدلين وعصريين بعدما أعادوا النظر بالتصاقهم بأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، أحبطوا المسعى سريعاً وتفاخروا بكلّ التخلف الذي يحملونه. أما أنّهم صاروا يجتمعون منذ فترة مع ابن بلدهم زلماي خليل زاد، وأنّهم وقّعوا اتفاقاً مع الأميركيين، وأنّ مسؤوليهم صاروا، وإن بتردُّد، يقبلون تصويرهم فوتوغرافياً أو بالفيديو (للتذكير أنّنا نعيش في عام 2021) فإنما لا يخفف ذلك من صعوبة إقناع هؤلاء بشيء اسمه ديمقراطية، وتنوع، وحقوق نساء، وليبرالية، وثقافة، وحرية تفكير ولبس ونطق.
في حضرة القضايا المطلقة، ممنوع طرح أسئلة تتعلق بمصالح الناس من نوع: متى كانت أحوال الأفغان أفضل؟ في ظلّ الاحتلال الأجنبي أو تحت حكم قاتل محلي؟ في حضرتها، لا مجال لرصد محاولات بناء دولة حصلت في وجود المحتل (مع كلّ الفساد الذي ينخرها) وإرساء مؤسسات نادرة (مع كلّ مصائب هيمنة القبائل والمليشيات عليها) وولادة مؤشرات مجتمع مدني وصحافة واقتصاد ورياضة وسينما وأدب ومسرح ومنظمات تُعنى بالمرأة مهما بلغت درجة وهنها. كلّ هذا كفر في معجم القضايا المطلقة. لا يهم إن كان بديل الاحتلال حكم "طالبان"، وقطع الرؤوس، ووأد النساء، وتعميم الجهل، فالاحتلال سيذهب، ومن بعده الطوفان. المهم أن يغادر الأميركي الكافر وأن يتركنا ننكّل بناسنا فنحن أوْلى بالمعروف، وهو ما لا مشكلة للأميركي معه طالما تعهدت طالبان، بموجب اتفاق الدوحة، بأن تحارب "داعش"، وبألّا تعاود استهداف مصالح أو مدن أميركية.
عاشت القضية... مات الإنسان. قد يكون مطلع نشيد مناسباً لأفغانستان الجديدة الخالية من الاحتلال.