أفريقيا وأحجار الدومينو
لم تتوقّف الانقلابات في أفريقيا منذ بداية استقلال بلدانها عن الاحتلال الأجنبي. وكان سؤال شرعية الحكم يُطرح باستمرار، وإذا كانت الدولة الحديثة تقوم على عُلوية القانون، وعدم شخصنة السلطة، باعتبارها تعود إلى الشعب، وليست ملكية خاصة، فإن الدول التي ساهم الاحتلال في صناعتها هي على النقيض تماماً، حيث يطغى الاستبداد وحكم الفرد أو الطغمة العسكرية. وينطبق هذا المثال على معظم الدول الفاشلة، أو شبه الفاشلة، التي شهدت سلسلة الانقلابات أخيراً (بوركينا فاسو ومالي والنيجر والغابون).
كان لفرنسا دور أساسي في فشل هذه الدول وعجزها عن تلبية حاجات مواطنيها، رغم مرور عقود على استقلالها، ورغم مواردها الهائلة التي تحوّلت إلى لعنة عليها، فقد جلبت كل الطامعين في الاستحواذ عليها، سواء من دول كبرى تمدّدت أخيراً في أفريقيا، أو من دول الاحتلال التقليدي التي اعتبرت هذه الدول غنيمة حرب لن تفرّط فيها حتى لو اضطرت إلى استخدام القوة المسلحة. من المعلوم أن لكُلٍّ من هذه الدول علماً وعملة ومقعداً في الأمم المتحدة، لكن هناك قليل من القانون والنظام والبنية التحتية الفاعلة، أو لا يوجد شيء. ظلت حكومات هذه الدول، بعد الاستقلال، هشّة وقابلة للانهيار، ولم تكن دوماً مناطق حرب مدمّرة على النمط التشادي السيئ. على الرغم من أنها تُصاب بنوبات من العنف، فإن الحياة اليومية فيها تتميّز بشكل أكثر نموذجية بالفساد المرتبط بأجندات خارجية، ونفوذ الشركات الغربية الكبرى، والخليط اللصوصي الموجود في دول مثل الغابون التي تبدو أكثر استقراراً.
في مناطق مثل النيجر ومالي وتشاد التي كانت تشهد حروباً مناطقية كانت الدولة شبحاً: تظهر ثم تختفي
في مناطق مثل النيجر ومالي وتشاد (خاضعة للنفوذ الفرنسي) التي كانت تشهد حروباً مناطقية وصراعات محلية كانت الدولة شبحاً: تظهر ثم تختفي، حيث يمكن رؤية معالمها والشعور بوجودها، لكنها تغيب فعلياً من حيث التأثير والفاعلية، حيث يختفي منطق المواطنة والمجتمع المدني والأحزاب بمعناها السياسي الدقيق بعيداً عن القبلية والمناطقية. وكانت الجيوش الطرف الوحيد المتماسك، والقادر على الاستيلاء على الحكم، والتعامل مع القوى الخارجية، غير أن قيادة هذه الجيوش بمزاجيّتها يمكن أن تغير ولاءاتها وتحالفاتها في أي وقت، وأحياناً من دون مبرّر واضح، على الرغم من شعارات الوطنية التي ترفعها. في ظل هذه الفوضى والتنازع على السلطة، تنهار الدولة بشكلها الحديث المتماسك. ومن المعروف أنه عندما انسحبت الدول الاستعمارية، ألغت عند رحيلها كل أسس الدولة المستحدثة التي جرى بناؤها، لكنها تركت وراءها الكثير من عناصرها البيروقراطية: ملابسها الرسمية، وتأشيراتها، وأوراقها الرسمية، ووزاراتها، وسلكها الوظيفي، وحافظت، في الوقت نفسه، دوماً على حضورها العسكري لحماية شركاتها التي كانت بصدد استغلال الموارد والثروات الطبيعية.
وسط هذا الخراب السياسي الذي تركته دول الاحتلال الغربي، تشكّلت الخرافة، والكره العنصري، والقبلية، والعقائد المتطرفة، وعدم الاستقرار العنيف. وساهم هذا التوجه في أن تسقط اقتصادات وطنية بأكملها في يد أنظمة استبدادية تتقاسم المصالح مع عصابات الجريمة المنظمة والشركات الغربية الكبرى، للتحكّم في موارد ضخمة، مثل اليورانيوم والذهب والألماس والنفط وغيرها من الخامات. تنطبق معايير الفشل على هذه الأنظمة، خصوصاً تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصادية غير العادلة، وعدم المساواة بين المواطنين، والتحولات الاقتصادية المفاجئة، والفساد، وتدهور الخدمات العامة، والتعدّي على حقوق الإنسان، والانقسام بين نخب الدولة، وأخيراً التدخّل الخارجي من الدول الكبرى، أو قوى شبه دولية (فاغنر على سبيل المثال).
فرنسا لا تدافع عن الديمقراطية، ولن تبني نظاماً عادلاً إذا تمكّنت من التخلص من عسكريي النيجر
تحوّل هذا القوس من الفوضى الممتد على مناطق ما تسمّى دول الساحل كاملة إلى معضلة حقيقية للدول الاستعمارية السابقة. وإذا كانت عدوى الانقلابات قد تفشّت بينها، وصاحبتها حالة من التمرّد على نفوذ الدولة الاستعمارية السابقة، أعني فرنسا، أحدثت حالة من التوجّس الفرنسي من استمرار أحجار الدومينو في التساقط بشكل متتالٍ، وهذا ما يفسّر حصول انقلاب في دولة الغابون، برعاية فرنسية واضحة، والتي يبدو أنها استبقت حركة الانقلابات، ونزعت حجر الدومينو اللاحق، على أمل أن تتوقف حركة الانقلابات المناوئة لها، وفي الوقت ذاته، ظلت تصرّ على إطاحة الحكم العسكري في النيجر بكل الأدوات الممكنة، بما فيها التدخل العسكري. ويدرك الجميع أن فرنسا لا تدافع عن الديمقراطية، بل ولن تبني نظاماً عادلاً إذا تمكّنت من التخلص من عسكريي النيجر، وهذا أمرٌ مدركٌ بالتجربة، فقد هيمنت فرنسا طويلاً على المنطقة، ولم تساهم في بناء دول حديثة، ولا توزيع الثروات بشكل عادل، فمشكلتها لم تكن الانقلاب (لأنها واقعاً ساهمت في رعاية انقلابات أفريقية كثيرة)، لكنها تسعى إلى حماية مصالحها، ووجود شركاتها التي تستغل الموارد الأفريقية، وهي، في سبيل حماية هذه المصالح، مستعدّة للتحالف مع الشيطان.