أغلى أماني معارضة تونسية: شراكة الانقلاب
عند زيارته قبر الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في الأسبوع الفارط في مدينة المنستير، في غزل مبكر للبورقيبيين الذين تستميلهم رئيسة الحزب الحر الدستوري، عبير موسي، التي تدعي أن بورقيبة هو إرثها الحصري، قال الرئيس التونسي، قيس سعيّد، إن "الحوار الوطني" سيجري على قاعدة نتائج الاستشارة الوطنية، ثم سارع بتكثيف اتصالاته. وحتى يبرز جدّيته، بادر إلى استقبال نائب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، القاضي فاروق العسكري، للتشاور معه حول الرزنامة
هرولت منظمات من المجتمع المدني نحو الرئيس، ما إن دعاها إلى مشاورات، حتى ينطلق في هذا "الحوار الوطني". استقبل الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل ورئيس اتحاد الصناعة و التجارة ورئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وعميد المحامين، وهو الرباعي الذي فاز سنة 2014 بجائزة نوبل للسلام، حين سهر على تنظيم حوار حقيقي بين مختلف الفرقاء، حتى جنّبوا البلاد حربا أهلية، كادت تقع على إثر اغتيالات استهدفت رمزين للمعارضة: اليساري المحامي شكري بلعيد والقومي الحاج محمد البراهمي.
طوق النجاة الذي ترمي به منظمات مدنية إلى سعيّد لن يوقف الأزمة السياسية الحادّة التي ستدخلها تونس حال أصرّ سعيّد على المضي منفردا في خريطة طريق
تهرول بعض المنظمات الوطنية من أجل أن تلقي للرئيس طوق النجاة، وهي تعلم أنه يحتاجها، غير أنها، وهي تحرص على أن تكون شريكاً للرئيس في مشروعه السياسي الهلامي، ليس لها من أمنيات سوى أن يمضي الرئيس في تفكيك حركة النهضة واجتثاثها. وهي تعلم أنّ هذه المهمة لن يقدر عليه سواه، لصفات ذاتية عديدة فيه، لعل أهمها سوء تقدير العواقب، العناد القاتل والكثير من الفوضى والعبث السياسي. كل هذه ترشّحه أن يذهب إلى مغامرات خطيرة. ومع ذلك تصطف هذه المنظمات بانتهازية سياسية مع الرئيس، حتى إذا أكمل تفكيك حركة النهضة كانت مهمته قد انتهت، وتحرّكت هي من أجل تعبئة جبهات الاحتجاج الاجتماعي. يؤكّد بعضهم أن الرئيس "مكلف بمهمة" من طيفٍ واسعٍ من لوبيات المال وجماعات الضغط، وأنه ما إن ينجزها، وهو يتوهم أنه سيد أمره، حتى يجري تجاوزُه ضمن سيناريوهات عديدة. ولعل أهم مهمة إنهاء هيمنة النهضة على المشهد السياسي، و لو على حساب الديمقراطية والانتقال الديمقراطي والسلم الأهلي.
غير أن طوق النجاة هذا الذي ترمي به هذه المنظمات إلى سعيّد لن يوقف الأزمة السياسية الحادّة التي ستدخلها البلاد حال أصرّ سعيّد على المضي منفردا في خريطة طريقه. لوّحت أحزابٌ عديدة إلى مقاطعة أي خطوة يمضي فيها الرئيس منفردا، بما فيها الاستفتاء والانتخابات، وذلك ما يسحب منه أي مشروعية أخلاقية، بل هدّد بعض منها بتشكيل شرعية موازية تنافسه. وظلت تصريحات رؤساء المنظمات الوطنية التي التقاها سعيد غامضة نسبيا، وبهذا تحافظ على هامش مناورة يقيها من التوغل في ما يورّطها بشكل نهائي. لذا تحرص على أن تحقق مكاسب من هذا الاصطفاف، إضافة الى المكسب الأكبر، التخلص من الإسلاميين. يعوّل الاتحاد العام التونسي للشغل على رفض الإصلاحات التي قد يمليها صندوق النقد الدولي على الحكومة في المفاوضات المتوقعة معه، في حين يعوّل اتحاد الصناعة والتجارة على وقف الرئيس حملته على رجال الأعمال والذهاب إلى وصفة مصالحة تعفيهم من القضاء والوصم، في حين تبحث عمادة المحامين على كسب نقاط في معركتهم مع القضاة الذين يتحرّش بهم الرئيس. أما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي خبا بريقها فتعوّل على أن تتحوّل فيها إلى بيت خبرة للرئاسة، فيما يتعلق بمسائل الحقوق والحريات في الفترة المقبلة.
يستهدف سعيّد الديمقراطية التمثيلية والنظام السياسي الذي ارتضاه التونسيون من خلال الدستور، أي النظام البرلماني المعدّل
لم يستقبل الرئيس أيّ مسؤول من الأحزاب التي عارضته أو التي ساندته. وهو يفعل ذلك عمداً، في نوع من الإذلال الشخصي لها، ولبيان "تفاهة الأحزاب" مثلما لمح في مناسباتٍ كثيرة، في ما يشبه تنظيرات معمّر القذافي في هذه المسألة، إذ كاد الرئيس التونسي يعيد مقولة "الكتاب الأخضر" الشهيرة: "من تحزّب خان".
بمضي قيس سعيّد في ترسيخ خطواته، جارفاً كلّ ما اعترضه من أفكار وتقاليد سياسية ومؤسسات، وهو لا يستهدف "المنظومة القديمة" التي يحمّلها كلّ الشرور التي لحقت بالبلاد، وإنّما يستهدف الديمقراطية التمثيلية والنظام السياسي الذي ارتضاه التونسيون من خلال الدستور، أي النظام البرلماني المعدّل، إذ لا يتمتع فيه الرئيس سوى بصلاحيات محدودة، ويستهدف الديمقراطية الحزبية. فرض مشروعه السياسي، مستندا إلى استشارة إلكترونية لم تتجاوز نسبة المشاركين فيها سوى 4%. كانت نتائجها تعبيرا عما يشتهي الرئيس: نظام رئاسي مع سحب الوكالة من النواب متى رأى الناخبون منهم عوجاً، فضلاً عن الترشّح وفق نظام الأفراد، وليس وفق نظام القوائم، وتجري الانتخابات التشريعية على دورتين.
هذا المرور المنفرد بقوة سيجعل من مشروع الرئيس إذا كتب له أن يتجسّد مشروعاً للاستبداد، وهو ما سيحرج كلّ تلك المنظمات ويحمّلها مسؤولية تاريخية. لذا، ما زالت متردّدة في انتظار ضماناتٍ لا يمكن أن يقدّمها الرئيس.