أسبوع مجيد لـ"التوجّه إلى الشرق"
العلاقة عكسية بين الديمقراطية والديكتاتورية. كلما ازدهرت الديمقراطية والليبرالية حول العالم انحسرت الأنظمة الشمولية التي ترسم للناس طريقاً وحيداً لحيواتهم. عشرية ما بعد سقوط جدار برلين والاتحاد السوفييتي درس في هذا المجال. وكلما تلقّت الديمقراطية والليبرالية ضربات، وكلما ظهرت أزمات في اشتغالهما، انتعشت دعوات "الاتجاه شرقاً" لتوسيع مدى أنظمة مهينة للبشر كتلك الحاكمة في الصين وروسيا وإيران. الصريحون يختصرون الطريق للوصول إلى خلاصاتهم: ضروري جداً تعزيز محور بكين ــ موسكو ــ طهران بما يتجاوز الاقتصاد والسياسة والعسكر لابتداع بديل ثقافي وحياتي يتيح لنا القول إن لدينا نموذجاً صالحاً للتعميم مناقضاً في كل شيء لليبرالية الديمقراطية الغربية (بما أن ديكتاتوريتهم اسمها ديمقراطية شعبية). أما الخبثاء ــ الأغبياء، فيتلاعبون بالمصطلحات للمبالغة في وصف أزمات الديمقراطية، ليوحوا لقرائهم وللمستمعين إليهم بأن المأسوف عليها، أي الديمقراطية، استهلكت إمكانياتها، بالتالي نحن مرغمون على التفكير ببديل آخر. من بين هؤلاء الأسديون والمعجبون بملالي إيران والبوتينيون وجماعة تقديس التسلط نكاية بأميركا والغرب ممن يستفظعون رشّ الشرطة الفرنسية متظاهرين بالماء حيناً، وإخراجاً بالقوة لشبّيحة دونالد ترامب من مبنى الكونغرس حيناً آخر.
ما شهده "قصر الشعب" في بكين الأسبوع الماضي، لدى تنصيب شي جين بينغ لولاية رئاسية ثالثة مدّتها خمس سنوات على رأس الحزب الشيوعي الحاكم والدولة، ترجمة حرفية لتلك العلاقة العكسية الشهيرة بين الديمقراطية والديكتاتورية. الرجل يحكم الصين منذ 10 سنوات إلا بضعة أشهر. هو ابن شي تشونغ شون، أحد رموز ثورة ماو تسي تونغ، ونائب رئيس وزراء أسبق، سرعان ما حلّ عليه غضب ماو كحال ملايين ضحايا "الثورة الثقافية". هذه الوقائع المعروفة عمن صار أقوى زعيم صيني منذ ماو، لم تردعه عن تكرار "ثورة ثقافية" خاصة به نابعة من قناعة راسخة لديه تعزو انهيار الاشتراكية في أوروبا الشرقية إلى الانفتاح السياسي، أحد مكونات الليبرالية والديمقراطية. ولكي لا يحدُث للصين ما حصل للاتحاد السوفييتي، الوصفة معروفة: مزيد من القمع لكن ليس على الطريقة السوفييتية، بل من صنف يوزّع أرباحاً اقتصادية على مناطق وأقاليم وفئات اجتماعية أوسع بكثير مما كان يحصل هناك. وتوزيع المكاسب يوازيه حرمان مناطق وفئات من فتات تلك المكاسب من النوع الذي كان الرئيس السابق هو جين تاو أوجده خلال رئاسته بين عامي 2003 و2013. وفي خريطة الفئات الاجتماعية، الأقليات الدينية هي الحلقة الأضعف، بالتالي ضربها كحال مسلمي الأويغور لا يحتمل مخاطر جدية لأن العالم عاجز عن معاقبة الصين واقتصادها. المنطق نفسه يسري على تهميش المرأة في مراكز القرار. فألّا يضم المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني (الحكومة الفعلية للبلد) أي امرأة في صفوفه، مع أن النساء يشكلن 48.8% من سكان الصين، هو قرار مدروس يندرج في خانة النكاية بتعليمات الديمقراطية والليبرالية.
تأمّل شي جين بينغ (69 عاماً) خريطة العالم بتمعّن. رأى شعبوية تصعد. فرح لزمن انفجار الهويات القومية، هو الذي يرأس أكثر بلد منغلق قومياً على نفسه في العالم (ربما تسبقه في ذلك كوريا الشمالية فقط). حلم بموت الديمقراطية وتوأمها الليبرالية. ظنّ أن أميركا صارت ضعيفة لأنها ترفض شنّ حروب جديدة خارج حدودها. شاهد أصدقاءه في موسكو وطهران يخوضون حروباً كيفما يشاؤون. شعر بأن العالم فعلاً على حافة حرب عالمية، وقال لنفسه إن حرباً كهذه بحاجة لقادة لا يتركون فلاديمير بوتين وحيداً في صدارة المشهد. عدّل دستور حزبه ودوّن اسمه فيه كـ"قائد ملهم" و"صاحب دور محوري".
بين الإبادة الروسية الممنهجة لمقومات الحياة في أوكرانيا (قصف محطات الطاقة والمياه ومستودعات الحبوب)، وإعلان طهران انتصارها مجدداً على الشعب الإيراني، والأيام السبعة للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، كان أسبوعٌ مجيدٌ لنظرية التوجّه إلى الشرق. مبروك.