أسباب تخفيفية لظاهرة تونسية
من يقرأ أخبار تونس هذه الأيام يتأكد أن انقلاب قيس سعيّد بات معزولاً سياسياً، في الداخل والخارج. معظم الأحزاب، معظم النقابات، معظم الدول، ترفض العبث المستمر منذ 25 يوليو/ تموز بالمؤسسات وبالديمقراطية وبالدستور وبالنظام السياسي. أما من يفتح التلفزيون ليرى الجماهير في تظاهرات وتجمّعات واعتصامات الهيئات الجامعة لخصوم الرئيس ذاك، من "مواطنون ضد الانقلاب" إلى "جبهة الخلاص الوطني"، وما بينهما من نقابات وأطر سياسية وشعبية، فإنما يتفاجأ بقلة عدد المشاركين. التفاجؤ سرعان ما يستحيل صدمة حين تسمع أحاديث وانطباعات تونسيين عائدين لتوهم من بلدهم، وهم رافضون بشكل مطلق كل ما يتعلق بهذا السعيّد وانقلابه، ذلك أنك تفهم من كلام هؤلاء أن أعداداً كبيرة من المواطنين يصدّقون ما يقوله هذا الإنسان، لا بل يؤيدونه، وليس بالضرورة أن يكونوا مستفيدين من حكمه وانقلابه وتخريبه وبشاعة كل ما ينطق به ويقدم عليه. كلام يترجِم شعبياً ما تفيد به استطلاعات رأي في تونس، صحيح أنها تؤكد انخفاضاً مستمراً لشعبية الرئيس، لكنها تشير في المقابل إلى بقائه متصدّراً قائمة الأكثر شعبية من بين الشخصيات السياسية، مع أن نعت السياسة لا يصح حقاً على المنعوت، هو الذي يشتم بالفصحى، ليل نهار، ما هو متعارف عليه ديمقراطياً للإدارة العامة، ويريد العودة بالعالم إلى تفاهات الديمقراطية المباشرة ولجان معمّر القذافي وجماهيريته.
لا تقديس هنا لاستطلاعات الرأي، فهي أحياناً تكذب عن قصد أو عن خطأ في العيّنة وفي منهجية الأسئلة وطريقة إجراء الاستبيان وتحليل الإجابات، لكنها بالتأكيد تعطي فكرة عن اتجاه الرأي العام، بغض النظر عما إذا كانت النسبة المئوية لتأييد فلان أو لمناهضة علان 45 أو 48 في المائة مثلاً. والاتجاه العام المقصود في هذا السياق، أن لدى شخص مثل قيس سعيّد، مجرم بحق اللغة والذوق العام والديمقراطية والمؤسسات والشعب والتاريخ والجغرافيا والمنطق، شعبية معتبرة.
يمكن العثور على أسباب تخفيفية لهذه الظاهرة ولإحجام الشارع المقابل عن المشاركة بكثافة في تحرّكات إسقاط الانقلاب. لكن كل سبب تخفيفي يقابله عكسه، ليصبح البحث في علم النفس الجماعي ــ السياسي للتونسيين اليوم، دوراناً في حلقة مفرغة.
دعم المؤسسات الأمنية والجيش انقلاب قيس سعيّد واضح، وذلك ربما يدفع فئة واسعة من التونسيين إلى تهيب الموقف اتقاءً لشرّ غير مرغوب فيه. ثم إن سعيّد، ومن خلفه العسكر والأمن، لم ينزلقوا بعد إلى ما يمكن أن يفجّر الغضب، أي أن قتيلاً واحداً لم يسقط بعد على أيدي الانقلاب الذي لا يزال محصوراً في تفكيك المؤسسات والانتقام السياسي من قيادات الأحزاب المعارضة، وإلغاء الدستور وإقالة القضاة والمحافظين ومصادرة الإرادة النقابية عبر تفكيكها وإطاحة مسؤوليها وشن الحملات وقمع وسائل الإعلام وتسخير مؤسسات الدولة لتشويه السمعة.. وكل هذه جرائم لكن مفاعيلها شعبياً لا تقارن بقتل متظاهرين. أضِف أن الثقة الشعبية بالأحزاب تآكلت بشكلٍ واضح خلال العشرية الماضية، بالتالي، فإن دعوات النزول إلى الشارع ظلت صوتاً بلا صدى، وهو ما بان منذ طلبت حركة النهضة من ناسها التظاهر بعد أيام من تجميد عمل البرلمان، فكانت نتيجة الاستجابة أقرب ما تكون إلى الفضيحة. لكن تضاؤل الثقة الشعبية في الأحزاب، أي في فكرة الأحزاب، ليس، في أي حال، سبباً تخفيفياً للتونسيين، بل سبب للإدانة، يحاكيه قيس سعيّد بخبث معروف عند الشعبويين، ويطوّره نحو نظرية ضرورة دفن الأحزاب لحساب لجان شعبية أثبت التاريخ مدى تفاهة فكرتها.
الغيرة على تجربة تونس ما بعد الثورة ربما تسمح لغير تونسي بأن يتمادى في المصارحة قليلاً: الديمقراطية لا تأتي بالفطرة بل إنها تمرين. والتمسّك بالمكتسبات، وفي مقدمتها الحرية، والدفاع عنها، أول التمارين. أما الخلط بين فشل أحزاب معينة وفشل فكرة الأحزاب عموماً فهو باب عريض للعبودية والتسلط، وما أكثر أبوابهما.