أزمة مركّبة في تونس

04 فبراير 2023

تونسيون يحتشدون في مظاهرة في العاصمة تطالب بتنحّي قيس سعيّد (14/1/2023/Getty)

+ الخط -

لا نحتاج إلى جهد لإثبات وجود علاقة معقدة بين السياسة والاقتصاد، لا يمكن معه فصل أحدهما عن الآخر والتأثير المتبادل بينهما، ولا يخلو تاريخ تونس السياسي بعد الاستقلال من أحداث كبرى ارتبطت بأزمات اقتصادية، كانت انعكاسا لخياراتٍ سياسيةٍ بداية من تجربة التعاضد ذات المنحى الاشتراكي في ستينيات القرن الماضي، والتي انتهت بمحاكمات وصراعات داخل الحزب الحاكم آنذاك (الاشتراكي الدستوري)، أو الانتفاضة العمّالية لسنة 1978 وبعدها ما عُرف في تاريخ تونس بثورة الخبز 1984، وكلاهما كانا نتاج خيارات حكومية في المجال الاقتصادي، وأسفرت عن حالة من الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وصولا إلى الثورة التونسية سنة 2011، بجذورها الاقتصادية وفشل السلطة القائمة حينها في التعاطي معها بشكل عقلاني متوازن.

هذه الإطلالة التاريخية مجرّد إشارة عاجلة لارتباط الفوضى السياسية في تونس بأزمات اقتصادية حادّة كانت تعجز السلطة عن حلها أو على الأقل تصريفها بما يضمن عدم انعكاسها بشكل حادّ على الشرائح الاجتماعية المختلفة. ولهذا، يمكن ملاحظة عاملين أساسيين يتبادلان التأثير في إنتاج الأزمات: العامل السياسي حين تتّجه السلطة نحو فرض خياراتٍ لا شعبية، بما يفضي إلى انفجار الشارع. أن تنعكس أزمة عالمية على البلاد وتفشل السلطة القائمة في معالجتها بشكلٍ يُنتج المبرّرات لمحاولة إلغاء الحكم القائم بدعوى التصدّي للأزمة الوافدة. وربما كان العامل الثاني الأقرب لتفسير ما حصل في تونس في السنوات الأخيرة، فمع التأثير الاقتصادي الكارثي الذي خلّفته جائحة كورونا وحالة الاضطراب الاجتماعي الناتج عن سوء التعامل مع تضاعف الإصابات بالوباء، جاء إعلان 25 جويلية (2021) لإيقاف المسار الديمقراطي، وتحميل النظام السياسي البرلماني مسؤولية سوء الأداء في مواجهة الأزمة الصحية، غير أن هذا المبرّر الذي كان مقنعا لجانب مهم من الجمهور في المرحلة الأولى على الأقل فَقد تدريجيا تأثيره، خصوصا بعد عودة الحياة الطبيعية للبلاد وللعالم، وليجد النظام السلطوي الجديد نفسه في مواجهة تفاصيل الأزمة الاقتصادية المركّبة من دون خبرات ولا مخطّطات، بشكل انعكس على أداء الاقتصاد التونسي.

حالة من اللامبالاة الغريبة إزاء الدور السياسي في تحفيز الاقتصاد، عبر سياسات خارجية ذكية من أجل مراكمة المصالح الاقتصادية، وإقناع الخارج بضرورة المراهنة على نجاح النظام السياسي

يكشف المشهد الاقتصادي التونسي، عبر جملة من المؤشّرات، عن أزمة عميقة وهيكلية، فقد تصاعد معدّل التضخّم في البلاد، ووصل إلى 10.1% على أساس سنوي، خلال ديسمبر/ كانون الأول الماضي، صعودا من 9.8% في نوفمبر/ تشرين الثاني السابق له، رافقه تصاعد معدلات البطالة وغلاء أسعار المواد الأساسية. وفي المقابل، عجزت الحكومة التونسية عن إقناع المانحين الدوليين، وفي مقدمهم صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على قرض مالي، بما يمكّن من الاستجابة للنفقات الحكومية الجارية. وإذا أخذنا بالاعتبار قرار وكالة التصنيف الدولية (موديز)، أخيرا، تخفيض التصنيف السيادي للبلاد من Caa1 إلى Caa2 وآفاق مستقبلية سلبية، فإن فرصة تونس في الاقتراض الخارجي أصبحت أقلّ، فضلا عن استجلاب استثمارات دولية وتوطينها في البلاد. وربما ما يضاعف الأزمة الحالية في تونس حالة الإنكار السياسي للأزمة، فالقيادة السياسية تحاول تصوير الأمر كأنه نتاج مؤامرة محلية، يستهدف من خلالها معارضو النظام إضعاف الدولة. وهذا الخطاب السياسي جزء من الأزمة، ولا يمكنه أن يمثل حلا، فتراكم العجز الاقتصادي وتصاعد المديونية وغياب تصور واقعي وعقلاني لإدارة الأزمة الاقتصادية يزيد في تفاقمها وسياسة الإنكار والهروب إلى الأمام، من خلال الاعتقاد أن مجرّد اتخاذ إجراءات قانونية وتغيير الدستور وتشكيل برلمان سيؤدّي تلقائيا إلى حل الأزمة هو وهم سياسي أكثر منه معالجةٌ للمشكل.

معروفٌ أنه في النظم الديمقراطية عندما لا يلبّي القائمون على الحكم مطالب ناخبيهم، يحول ذلك دون استمرارهم في مناصبهم، أو على الأقل يفقدون فرصهم في إعادة انتخابهم. ولهذا تختار النظم الديمقراطية غالبا السياسات التي تعود بالنفع على الاقتصاد، ويسعى القائمون على هذه الحكومات إلى إيجاد العلاقات والتحالفات لجلب الاستثمارات والمنح والقروض المالية، للتمكّن من إقناع الجمهور بسلامة خياراتهم السياسية. أما ما يجري في تونس حاليا فهو حالة من اللامبالاة الغريبة إزاء الدور السياسي في تحفيز الاقتصاد، عبر سياسات خارجية ذكية من أجل مراكمة المصالح الاقتصادية، وإقناع الخارج بضرورة المراهنة على نجاح النظام السياسي.

تجمع الأزمة المركّبة التي تعانيها البلاد في هذه المرحلة من تاريخها بين غياب الاستراتيجيات الاقتصادية الناجعة للتعافي من آثار الأزمة العالمية وغلاء الوقود والحبوب من جهة واضطراب الخيارات السياسية التي ما زالت تراوح مكانها، وتحاول تثبيت رؤية سلطوية تتغاضى عن ضرورة الحوار الوطني، والمرور نحو إيجاد حل شامل تشارك فيه كل الأطراف السياسية الفاعلة، لتفادي حصول هزّات اجتماعية، أثبتت مراحل التاريخ الماضية أنها كانت دوما حاضرة إثر كل مرحلة فشل اقتصادي وانغلاق سياسي.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.