أزمة سد النهضة وتضميد جروح الداخل المصري
تدرك قطاعات كبرى من المصريين أن سد النهضة الإثيوبي قضية حياة أو موت، فمواجهة بنائه وملئه، على الرغم من بؤس حال الإعلام والسياسة والإدارة، تتجلى الآن مسألة وجود. ولكن الأخطر ليس في هذا البؤس، كما يتجلى هنا وهناك، بل وبالأساس في هذا الشرخ الذي يضرب بين سلطة الدولة والمجتمع، وقد تعمّق وجلب معه توتراتٍ وجراحا متقيحة بعد الانقضاض على ثورة يناير (2011) وما تمثله من سعي إلى تغيير قواعد التوازن المختلّ بينهما.
ويمكن للمصريين، في هذه اللحظة المصيرية التي يقفون أمامها، أن يتنبهوا إلى أخطاء ومآخذ سياسية وفنية على إدارة ملف مياه نهر النيل عشرية كاملة، سواء عند رئاسة الجمهورية أو وزارتي الري والخارجية أو حتى أجهزة المخابرات. كما يمكنهم التوقف إزاء عقلية ما قبل الحداثة التي اقترنت وسادت مع إعادة إنتاج حكم الفرد مطلق السلطات والصلاحيات، المتغوّل على الحقوق والحريات. وهم يوما ما سيبلغون نقد هذا التساهل مع من يقرّر ويحكم منذ نحو سبع سنوات بدون رقابة حقيقية من برلمان وصحافة حرّة ناقدة وقضاء مستقل محل ثقة الشعب الذي تصدر أحكامه باسمه. وهم متسائلون اليوم أو في الغد عن أهلية "قيادة" من أطلّ عليهم من أعلى، ليقول صراحة، وفي القرن الحادي والعشرين، إنه لا يملك برنامجا يطرحه في انتخابات، ولا يؤمن بدراسات جدوى مسبقة ولا يأخذ بها. ناهيك عن حسرة التساؤل بأسى عن فكرة قبول "قيادة فردية مشخصنة" كهذه، تعمل خارج المؤسسات وفوقها وعلى حسابها، وبعد ثورة شعبية تحدّت "مبارك الحاكم الفرد وأسرته وحاشيته". كما قد لا يخلو الأمر من مقارناتٍ مؤلمةٍ وتشابهاتٍ مؤسفةٍ مع مقدّمات هزيمة يونيو 1967.
ولكن هذا كله جانب من الصورة، فيما يظل الجانب الأهم والأخطر هذا الشرخ الذي أخذ يضرب في العمق بين سلطة الدولة والمجتمع. وهو ما يجعل، بلغة ما قبل مصر الثمانينيات، "الجبهة الداخلية" مهزومة في "معركة سد النهضة" قبل أن يحمى وطيسها. وثمّة في الأصل، في كتابات علم الاجتماع السياسي، كثير مما يقال عن العلاقة غير المتوازنة في مجتمعاتنا العربية بينها وبين سلطة الدولة على اختلاف نظمها السياسية أمس واليوم. لكننا أصبحنا في الحالة المصرية إزاء شروخ وجروح وقروح، يخالها المرء غير مسبوقة في تاريخ البلاد الحديث والمعاصر. ولقد بدأ هذا الأمر الجلل بهجوم عنيف قاس من سلطة الدولة ضد المجتمع على جبهة الحقوق السياسة، فانخفض سقف الحريات العامة، بعد صعود التوقعات بالتحرّر مع ثورة يناير. ولم يتوقف هذا الهجوم، مخلفا مزيدا من المحبوسين بخلفياتٍ سياسيةٍ، ولمجرّد اشتباه التجرؤ على ممارسة قدر من حرية التعبير والكلام، ولو على صفحات التواصل الاجتماعي.
عناصر القوة الشاملة خلال إدارة الصراعات لا تقتصر وحسب على الدبلوماسية والسلاح، بل تشمل يقينا علاقةً أكثر توازنا وعدالة بين سلطة الدولة والمجتمع
وفيما يتواصل العدوان على جبهة الحقوق والحريات السياسية، سرعان ما لحق به هجوم آخر لا يقل قسوة، ممتد أيضا، على جبهة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من إفقار واعتصار للمقدّرات المتواضعة لعموم المصريين. وهكذا هو الحال عبر آليات غلاء الأسعار والخدمات والغلو في الضرائب والرسوم المجحفة من دون كوابح، وفي ظل إضعاف مقاومات المجتمع المدني وسحق تشكيلاته. وأيضا في سياق غياب قنوات الحوار والتفاعل بين المجتمع وسلطة الدولة أو انسدادها.
واليوم مصر، مجتمعا ودولة، في أمسّ الحاجة لتضميد الجروح الناجمة عن هذا الشرخ. وبهذا المصطلح الممتد إلى عقد السبعينيات، كان أنور السادات مدركا أهمية تضميد جراح "الجبهة الداخلية"، فتمتّع بكياسة الإفراج عن المعتقلين من معارضيه السياسيين، وبإعادة الكتاب والصحافيين إلى أعمالهم وحقوق النشر والتعبير قبل أشهر قليلة من حرب أكتوبر 1973، فقد كان من الجنون أن تخوض سلطة دولة ما حربين على جبهتين في الخارج والداخل معا. وهكذا لم يقتصر الإعداد والتخطيط لحرب أكتوبر في مصر على إعادة بناء التحالفات الإقليمية والدولية على المسارح العربية والأفريقية، ومع المعسكرين الشرقي والغربي، في ظل الحرب الباردة حينها. واليوم إذا كانت مصر سلطة الدولة تنخرط في سياق "مصالحاتٍ ما" مع قطر وتركيا قد تصبّ لصالح إدارة أزمة سد النهضة، فإنها مطالبةٌ، بالأحرى، بإطلاق مبادرات جادّة وبحق تجاه المجتمع وبأسره على مختلف أصعدة الحريات السياسية والحقوق الاقتصادية المعيشية. ولا يتعلق الأمر هنا بمصالحة مع فصيل سياسي بعينه، وكأنه يأتي عطفاً، وفق هذا المنظور الضيق، على مصالحاتٍ خارجية لدول تستضيف عناصر أو رموز معارضة من هذا الفصيل السياسي، فما جرى من سلطة الدولة إزاء المجتمع في مصر على مدى السنوات القليلة الماضية أعمق وأوسع من هذا بكثير. وهو ما يتطلّب منهجا شاملا في المصالحة مع المجتمع، وأيضا إجراءات ملموسة عاجلة، كإطلاق سراح كل سجناء الرأي، وتحرير المجال العام بما في ذلك حرية الإعلام والصحافة.
لا يمكن لسلطة، مهما وثقت في بطشها، أن تكون في حرب مع مجتمعها وتأمل النجاح في إدارة معركة مع الخارج
وبالقطع، وحتى في أزماتٍ كهذه، كمصير سد النهضة ووجوده، فإن الاتجاه إلى تضميد جراح المجتمع ليس قرارا سهلا، ولن يكون كذلك، فحول كل سلطة تجور على مجتمعها تتشكل جماعات مصالح فاسدة منتفعة، على استعداد دوما للتضحية بما هو "مجتمعي عام" و"وطني جامع" من أجل دوام امتيازاتها، بما في ذلك مراكزها ومقاعدها بين سلطات الحكم بالسياسة والمال والإعلام. وليس من اليسير على هذه النخب التي تميل، في سياق استبدادي شبه فاشي، إلى مزيد من الأنانية والتوحش مع تركيز السلطة والمال، الإقدام على مراجعات ومصالحات داخلية، لأن في هذا ما يضع امتيازاتها غير المستحقة محل مراجعة أيضا.
وعلى أي حال، لا يمكن لسلطةٍ، مهما وثقت في عنفوانها وبطشها، أن تكون في حربٍ مع مجتمعها على هذا النحو، وتأمل النجاح في إدارة معركة مع الخارج. ولعل خبرة التاريخ الإنساني منذ القدم تفيد بأن الدول والإمبراطوريات الأكثر استبدادا، والمثقلة بالجروح والثارات مع مكونات شعوبها وتابعيها، بين الخاسرين على جبهات القتال، وفي صراعاتها مع الخارج. .. ولا تخاض المعارك العادلة بالعبيد في الأغلال، بل بالمواطن الحر السيد. وهذا معلوم منذ الأقدمين. أما بلغة العصر الحديث، فإن عناصر القوة الشاملة خلال إدارة الصراعات لا تقتصر وحسب على الدبلوماسية والسلاح، بل تشمل يقينا علاقةً أكثر توازنا وعدالة بين سلطة الدولة والمجتمع.