أرض الخراب
ماذا لو أنك لم تجد فكرةً واحدةً نافعةً أو ذات معنى في دماغك؟ ماذا لو كان رأسك أشبه بطبلٍ خاوٍ يرنّ بصدى فراغٍ كونيّ؟ ماذا لو أنّ الكلمات، كلّ الكلمات، ما أن تفتح فاك، حتى تسقط بين ذراعيك قتيلةً مثل طيور أعدمها غضبُ السماء. ماذا لو أن جُمَلك تسرح بين قدميك وتصوصُ كفئرانٍ جائعة، ماذا لو أنها تتلوّى كثعابين تعضّ أذنابها، أو تتطاير رمادًا ما أن تقبض عليها؟
لا شيء لم يُقل بعد، لا كارثة لم نجمع من حولها كلَّ جوقات الأرض من بكّائين وحفّاري قبور وندّابات. عمّ تراك ستكتب بعدُ وأنت تشعر بالغثيان، بامتلائك حتى الفيضان، بحيث تخشى إن انفرجت شفتاك، أن تندلق من بينهما أحشاؤك، أن تنهمر أسماكُ أيّامك طافيةً على أسطح مستنقعات روحك الآسنة؟
ألا تراه وتسمعه، الأعمى تيريزياس ناعقًا بسواد أيّامك المقبلة، فيما تمضغ ميديا أبناءها قبل أن تقذفهم أشلاء إلى المحيطات؟ تنتحب أنتيغون أمام الملأ فوق جثة أخيها المتفسّخة تحت سياخ شمسٍ لاهبة، وقد رفض خالها كريون السماح لها بدفن أخيها، أمّا تلك الغربان الناعقة، الجاثمة على صدر السماء، فهي المنتظرة أن يأتي دورها كي تنهش كبد بروميثيوس، الذي لن يلبث أن يعاود النموّ غدًا، لتعود فتنهشه. مرّةً إثر مرّة، لأنّ الحياة لعنة، ولأنك ستبقى أنتَ الغريب، أينما يمّمتَ وحيثما حَلَلْت، أنت الذي تجرّ خلفك نتف أسمال، ولعناتٍ تتوالد مثل الجراد.
المأساة تبيت داخل بيوتنا منذ قرون، والكورس ما عاد يُطيق الإنشاد ولا التكرار، أضرم النار في الخشبة، فجاءت جوقة العميان تُطفئها وتمحو عن الشهود وجوههم. لم يعد هناك من يصف لنا الأحوال، من يوصل رسائلنا، أو يُبلغ أهالينا أننا ضائعون. الحرفيون قُطعت أصابعهم، والنشّادون ألسنتهم، أما الأبطال فقد تركوا معاركهم بعظام قدّدتها شموسٌ بعيدة. الصلوات خبت فوق قمم الجبال، والآلهة اختلفوا على سِعة السماء، على من رفعها أوّلا ومن ثمّ ملأ البحار، فأدخل الربّان رأسه في زجاجةٍ رماها إلى اليمّ، على أمل أن يجدها أطفالٌ عراة يرمون شِباكَ الصدفة علّها تعود بما يروي ويُشبع.
اقرع أيها الغريب على بوّابة العالم، ولن يُفتح لك، وقد لفظتك السَّحابُ التي ولدتك وتركتك طريح العشب. نُح واضرب صدرك بيديك، فالنار قد بردت، والمنازل قد تهدّمت، والخيولُ ابتلعتها آثارُ أقدامها قبل أن تقفز مسرعةً إلى حُمرة الشفق.
ها إننا ندبّ على أرضٍ يبابٍ مثل أسراب نمل ما قبل الخليقة، نتقدّم مسرعين في متاهات الرمل، قبل أن تنهمر الأمطارُ وتسدّ العاصفةُ الهوجاء منافذَنا إلى الخلاص. لا خلاص. وحدها الشجرة تدرك كنهَ الوقت، معنى التجذّر والانفلاش والامتداد، حدود الرعشة، أما العصفورُ فقتيلٌ مُرجأ، وأما الثّمرة فضحيّةٌ مؤجّلة. أشعِل عودَ ثقابك الأخير، وارسل إلى أمّك زفرات أنفاسك المزهقة لأنها لن تغسلك، ولن تنظّف جراحك، ولن تُلبسك، ولن تدفنك، ولن تندبك. أرسل إليها دخانَ روحك المحترقة، بقايا زيّك المعفّر بالتراب، فردة حذائك، عمرك المقصوف، أحلامك المبتورة، وسلسالك الذهبي. ألم يُقل من قبلك أنها الأرض الخراب؟ ألم تخبر وتعاين وتلمس بيديك؟ اسمع إذن:
"ما هذه الجذورّ المتشبثة بالأرض، وأية أغصان تنمو/ من هذه النفايات الحجرية؟ يا ابن آدم /أنت لا تملك أن تقول أو تخمّن شيئاً، أنت لا تعرف/غير كومةٍ من الصور المهشَمة، حيث تضرب الشمس/ والشجرة الميتة لا تمنح ظلا، ولا الجندب راحة/ ولا الحجر اليابس صوت ماء" (ت.س. إليوت).