أحد الخاسرين في حرب غزّة
موقف لافت حدث لي قبل أيام في معرض الكويت الدولي للكتاب؛ رآني من بعيد كاتبٌ أعرفه ويعرفني منذ سنين طويلة أخا وزميلا، وبيننا علاقة وثيقة على صعيد الكتب والأدب، لكنني لم أره منذ سنوات قليلة. لم ألحظ أنه كان يزور الكويت في مناسباتٍ ثقافيةٍ، ويتعمّد أن لا يتواصل على غير عادته. لم أرصُد ولم أنتبه إلا بعد الموقف الذي أعادني إلى الوراء.
أشاح بوجهه وكأنه لا يعرفني، أو أنه لا يريد أن أراه! لا أتذكّر أبداً أنه حدث بيننا أي خلافٍ شخصي، لكنني أعرف أنني أختلفُ معه حول معظم القضايا السياسية، وبالتأكيد أختلف معه في موقفه الذي تغيّر كثيرا جداً، وفجأة، من القضية الفلسطينية برمتها. لم أناقشه في الموضوعات الشائكة، وكنا نكتفي بالحديث في الأمور الثقافية والإصدارات الجديدة.
لا يريد أن يسلم عليّ، ولا يريد أن يبدو أنه رآني في زحمة الناس بين أروقة الكتب وأجنحة المعرض؟ لا بأس... ولكلٍّ منا ظروفه، فأنا أيضا لم أعد أطيق التحدّث مع من خفت اهتمامه وفترت حماسته للقضية. كنتُ أرتدي ككثيرين غيري في المعرض هذا العام الكوفية الفلسطينية، دلالة على تضامننا مع المقاومة في غزّة في سياق ما يحدُث هذه الأيام. المعركة مستمرّة، ونحن لا نملك سوى القليل من وسائل التضامن والمساندة والمناصرة؛ كلمات وتدوينات وندوات وكوفيات وأعلام، وهو ما حوّل أروقة معرض الكويت للكتاب إلى أرض تنبض بقلب غزّة وتتلون بألوان العلم الفلسطيني، وتتوشّح بالكوفية. ولذلك لم يكن في خاطري السلام على من تجاهل ما يحدُث في غزّة وبخل عليها ولو بتغريدة تضامن يتيمة.
كان الأمر كله مثاليا بالنسبة لي، لولا أنه أرسل إليّ رسالة خاصة بعدها، يسلم ويقول: "اعذُريني... سلامي عليك علناً مع موقفك الحاد ضد التطبيع يحرجني في بلدي. أخاف أن يلتقط لنا أحدهم صورة". من الواضح أنه كان قد انتبه إلى الكوفية التي أتوشّح بها إذن.
قد يبدو هذا الموقف بسيطا وصغيرا في زحمة الحياة اليومية بين تفاصيل الكتب ومواعيد حفلات التوقيع في المعرض، وكاد أن يمرّ بلا توقف وبلا تفكير، لولا أنني أعيش زمن غزّة وأحداث طوفان الأقصى بكل تفاصيلي الحياتية. ليس على صعيد الاهتمام بالأخبار الواردة من هناك وحسب، ولكن أيضا على صعيد ما تمخّض عنها من عبر لا بد أنها غيّرتني كلّي.
لقد أعادت الحرب ترتيب أولوياتي في الحياة، ليس على صعيد أفكاري الشخصية عن الموت وأنا أراه وافراً تحت الأنقاض وفوق الأرصفة وبين أروقة المستشفيات المزدحمة عبر شاشة التلفزيون وحسب، ولكن أيضا على صعيد علاقاتي مع الآخرين حولي.
قرّرت، في البداية، تجاهل الرسالة التي اعتبرتها تافهة، ولا تستحقّ التوقّف عندها طويلا، ولا عناء الردّ عليها بأي كلمات. لكن ما جعلني أعيد قراءة الموقف ثانية، من دون أن أعيد قراءة الرسالة، وأكتب عنها، أنها تنمّ عن نتائج هذه الحرب في سياق مختلف عن السياق الذي أفكر فيه.
كتبتُ منشورا موجزا بالموقف في حسابي على منصّة إكس، لأنني أردت أن أعرف قراءات أخرى له من المتابعين. لم أكتب اسم الكاتب بالطبع، وتعمّدتُ ألا أشير إليه ولو على سبيل التلميح، فلم يكن هدفي أن "أفضحه"، ولا أن أعرّضه للإحراج الذي خاف منه في بلاده كما قال، ولا لإحراجٍ آخر يستحقّه من قرّائه وزملائه .. كنتُ فقط أريد أن أتأكد من موضوعيتي في الحكم على الأشخاص، بناء على آرائهم وأفكارهم في الحياة.
ختمت المنشور، الذي كتبته تلخيصا للموقف، بطلب اقتراحات القرّاء للردّ عليه، رغم أنني كنتُ قد قرّرت ألا أردّ أبدا، لكنني متأكّدة أنه سيقرأها وسيعرف أنه وأمثاله الخاسر الأكبر في هذه الحرب.. وكلّ حرب، وهذا يكفي.