أبعد من حملات تشويه على مونديال قطر

02 نوفمبر 2022
+ الخط -

منذ فوز قطر، قبل 12 عامًا، بتنظيم بطولة كأس العالم 2022، لم تتوقف حملات التشكيك، في قدرة الدوحة على استضافة هذا الحدث العالمي المهم، على الرغم من تفاوت وتيرة هذه الحملات، تبعًا لمتغيرات البيئتيْن الدولية والإقليمية. وبغية تفكيك هذه الحملات، وتحليل أهدافها، ومضمونها وحججها، وكيفية تعامل الدوحة معها، ومآلاتها المستقبلية، يمكن الوقوف على أربع ملاحظات: أولاها أن أهداف/ دوافع الحملات ليست عارضة أو آنية، وأنها أكبر، في جوهرها ومضمونها، من موضوع استضافة كأس العالم؛ إذ تنوس، في حدّها الأدنى بين التشويه/ التشكيك/ التحريض، بغية ابتزاز قطر، أو الضغط عليها، وصولًا، في حدّها الأقصى، إلى المطالبات اليائسة بسحب حق الاستضافة تحت حججٍ متنوعةٍ (تراوحت بين رشوة الفيفا، وموت العمّال الأجانب، وسجن المثليين أو التضييق عليهم، والطقس الحارّ في قطر)، ما يُخفي رغبة في استهداف ما تمثلّه البلاد من تطوّر تنموي وإداري وتشريعي لافت، مقارنة بسياقها الخليجي.

وإذا كانت مصادر هذه الحملة الظاهرة هي أوساط رياضية/ إعلامية غربية أساسًا، ترفع شعاراتٍ حقوقية وليبرالية، فإن محرّكاتها الفعلية، تكمن في شخصيات سياسية (تستبطن أفكارًا عنصرية)، وليس بوسعها قبول فكرة تنظيم دولة غير غربية أو لاتينية، حدثًا عالميًّا بهذا المستوى. وليس بلا دلالة أن يأتي أول المواقف السلبية من فوز قطر بتنظيم المونديال من الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي وصف قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بأنه "قرار خاطئ"، إثر حصول الملف القطري، آنذاك، على 14 صوتًا، مقابل ثمانية للملف الأميركي. وعلى الرغم من "خيبة أمل" سيد البيت الأبيض، فقد كان غريبًا جدًّا أن يتحدّث بهذه الطريقة (وهو الحائز جائزة نوبل للسلام عام 2009)، لا سيما أنه سعى، في أوائل عهده، إلى تدشين خطاباتٍ ووعودٍ تصالحية مع العالم الإسلامي، على نقيض سياساته ومواقفه الفعلية في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها، التي لم تعكس "تغيرًا جوهريًّا" في العقل الرسمي الجمعي الأميركي/ الغربي، وأكّدت الإصرار على سياسات الهيمنة والاستعلاء والعنصرية واحتكار تحديد المعايير والقيم، التي ينبغي أن يسير على هديها العالم بأسره، مع إنكار حقّ الآخرين في الحفاظ على خصوصياتهم الثقافية والحضارية والأخلاقية.

ويبدو أن مرور أكثر من عقدين على هجمات 11 سبتمبر (2001) في الولايات المتحدة، التي كرّستها واشنطن يومًا فاصلًا في "الذاكرة العالمية"، ثم ازدهار التيارات "الشعبوية اليمينية المتطرّفة" في غير مكان في العالم، إبان حقبة الرئيس دونالد ترامب، لم يؤدّيا إلى عمليات مراجعة "جذرية/ حقيقية"، في العقل السياسي الغربي الجمعي، لا سيما مع استمرارية رسم "صور نمطية" (Stereo Types) و"قوالب جامدة" للعرب والمسلمين خصوصًا، والشعوب غير الغربية عمومًا، على نحوٍ يجدّد ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، ويُحيي أسباب الكراهية والعداء، ويكرّس، في المحصلة النهائية، استمرارية دمغ المسلمين والعرب بتهمة "الإرهاب".

المتوقع أن تستمر قطر في نجاحها في خدمة مشروعها التنموي ورؤيتها الخاصة، مع رفض أية توجهات تحاول الأطراف الخارجية فرضها على الدوحة

الأسوأ من ذلك انجراف بعض النظم الخليجية والعربية، لا سيما إبّان حصار قطر (2017 - 2020)، نحو مسايرة الحملة الأميركية/ الغربية "مكافحة الإرهاب"، دونما التزامٍ بمرجعيات القانون الدولي، والاستنكاف عن تعريف "مكافحة الإرهاب" تعريفًا قانونيًّا دقيقًا، ما كاد يؤدّي، في المحصلة، إلى دمغ الثقافة العربية/ الإسلامية بـ"الإرهاب"، وتشويه صورة العرب والمسلمين جميعًا، بما في ذلك مؤيدو التوجّهات الأميركية/ الغربية أنفسهم. ولعل هذا يؤكّد مجددًا عبثية نقل الخلافات العربية العربية إلى ساحات خارجية، وإنفاق أموال خليجية في دول الغرب لتشويه سمعة قطر وربطها بالإرهاب وشيطنتها، عبر حملات دعاية وعلاقات عامة، (بلغت قيمتها في بريطانيا وحدها، 5.5 ملايين جنيه إسترليني، كما كشفته صحيفة الغارديان في 10 فبراير/ شباط 2019).

تتعلق الملاحظة الثانية بتعامل الدوحة مع هذه الحملات، عبر أداء دبلوماسي رصين وحازم، في الوقت نفسه، كما جاء في خطاب أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، أمام مجلس الشورى (25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي). وعلى الرغم من التزام الدوحة بقيم الحوار وآليات الحلول السياسية والدبلوماسية وتقديم الحقائق، يبدو أن الدبلوماسية القطرية تتجه نحو التعامل بحسم أكبر مع زيادة حدّة الهجمات الدعائية على الدولة، كما حدث في الردّ على تصريحات وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، التي تعمّدت تشويه صورة الدولة، قبيل انطلاق فعاليات المونديال في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. ولا غرو، في هذا الإطار، أن توظّف الدوحة خبراتها السابقة في كسر الحصار وإفشال أهدافه ومراميه، عبر التزام خطابٍ متوازن، والاعتماد على الذات، وتجميع الجهود الوطنية وتنميتها لتحقيق أهداف الدولة، مع وضع حملات التشويه في حجمها الطبيعي، والاستمرار في الطموح وتكثيف الجهود، لإنجاز مونديالٍ متميز، يقدّم الوجه الحضاري للقطريين والعرب والمسلمين.

وإذ ترتكز قطر على قوتها الناعمة، واقتصادها المزدهر، وموقعها مركزًا للغاز والتجارة، ودولة ذات سياسة خارجية ديناميكية، تقوم على شراكاتٍ استراتيجية متوازنة على الصعيدين، العالمي والإقليمي، وقدرة على استثمار الفرص ومواجهة التحدّيات، خصوصًا ما استجد منها بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن المتوقع أن تستمر في نجاحها في خدمة مشروعها التنموي ورؤيتها الخاصة، مع رفض أية توجهات تحاول الأطراف الخارجية فرضها على الدوحة.

شخصيات سياسية تستبطن أفكاراً عنصرية ليس في وسعها قبول فكرة تنظيم دولة غير غربية أو لاتينية حدثًا عالميًّا بهذا المستوى

تتعلق الملاحظة الثالثة بموقف مجلس التعاون الخليجي من تصريحات الوزيرة الألمانية؛ إذ عبّر أمينه العام، نايف فلاح مبارك الحجرف، عن دعم دول الخليج قطر في التصدّي لأي تدخل في شؤونها الداخلية، ودحض الادعاءات التي تسيء للعلاقات الألمانية القطرية، وأشاد باستضافة قطر بطولة كأس العالم، ودورها في بناء التواصل الحضاري، وتعزيز التفاهم بين الشعوب، في إطار من الاحترام المتبادل.

تتعلق الملاحظة الرابعة بتفاعل إعلاميين ونشطاء ومغرّدين عرب، مع وسم "أنا عربي، وأدعم قطر"، ردًّا على حملات التشويه التي تستهدف المونديال المرتقب؛ ما يعكس تبلور "إدراك" استثنائية الحدث، وكونه فرصة نادرة لتقديم "النموذج العربي الحضاري" للعالم، والتصدّي لحملات التشويه والمليارات التي يجري إنفاقها لتشويه صورة العالمين، العربي والإسلامي.

أخيرًا، يبقى التأكيد على أمرين: الحاجة الماسّة إلى مزيدٍ من الدراسات الإعلامية المتخصّصة لتحليل هذه الحملات، وربطها بسياقاتها الأوسع، وكشف دلالاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، توطئة للتصدي العلمي/ العملي لها بصورة أكثر كفاءة، في ضوء استمرارية حملات التشويه ضد مونديال قطر خصوصًا، وصورة العرب والمسلمين عمومًا. والآخر أن نجاح قطر المأمول في تنظيم مونديال فريد سيشكّل إسهامًا ملموسًا، في كسر "الصورة الاستشراقية النمطية" عن العرب والمسلمين، على نحوٍ يمكّنه من استعادة الصورة المشرقة التي أشاعتها الثورات العربية عام 2011، عن شعوبنا الساعية إلى العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، ويفضح في المقابل أغلب الخطابات الغربية التي تتذرّع بحقوق الإنسان، على الرغم من انحيازاتها الصارخة لقيم ثقافية غربية/ ليبرالية، وتحيّزاتها العميقة ضد قيم الثقافات الأخرى، الآسيوية والعربية والإسلامية.

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل