آيا صوفيا .. جسر آخر فوق التاريخ
حسناً يفعل قُضاة مجلس الشورى في تركيا لو تكرّموا وأصدروا قرارهم حيال السماح في إعادة متحف آيا صوفيا مسجداً، من عدمه، قبل انقضاء المهلة الدستورية المحددة لهم في 17 من الشهر الحالي، فمن شأن اختصار فترة الانتظار تقليص نطاق سجال عالمي لا يزال محصوراً في إطار الكلام والشتيمة والتحريض واستحضار التاريخ من أذنيه ومد جسور من فوقه، ليختلط الديني بالسياسي والثقافي، بما لا يفيد البشرية في شيء، بل إنه يزيد من أوجاع رأسها ونزاعاتها الهوياتية. الكنيسة التاريخية (شُيدت بهيئتها الأولى عام 537)، التي حوّلها مؤسسو السلطنة العثمانية مسجداً لأكثر من أربعة قرون، علامة لانتصارهم على البيزنطيين، رست على وضعية متحف مرموق منذ عام 1934، هو من أشهر المعالم التاريخية في العالم، وهو ما يُحسب لمصطفى كمال من بين أمور كثيرة أخرى.
إعادة متحف آيا صوفيا مسجداً فكرة قديمة عند طيف واسع من المحافظين الأتراك وغير الأتراك، وظلت شعاراً خاصاً بمظلومية إسلامية محقة حيال تهميش باسم العلمانية، انتهى فعلياً في تركيا بعد بضع سنوات منذ تسلم حزب رجب طيب أردوغان السلطة عام 2002، في بلد 99% من سكانه مسلمين، وفي أكثر مدينة (إسطنبول) تحتضن مساجد في العالم على الأرجح (حوالي 3200 مسجد). لكن أردوغان وجد مادة سجالية جديدة يشغل بها العالم ويُبقي من خلالها على اسمه في صدارة اهتمامات وسائل الإعلام بينما يتوسع نفوذ بلده في الجوار على الأقل، وتكبر جبهة معارضيه في الداخل والخارج، وهو يدرك أن انتخابات الرئاسة في 2023 لن تكون نزهة بالنسبة إليه بعدما كثر المنشقون منه من رفاق الدرب الطويل، وتوزع الناخب الإسلامي بشكل عام بين أحزاب السعادة وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان وناخبين أفراد سحبوا دعمهم للرئيس التركي. لكن بماذا تفيد إضافة مسجد إلى اللائحة الطويلة في بلد المساجد، غير إثارة هواجس ونعرات ومخاوف عند طيف من الناس في العالم ممن يتابعون يومياً، بشكل دقيق أو مبالَغ فيه، صورة أردوغان الشعبوية في الخطاب والسلوك السياسيين؟ لا يتعلق الأمر هنا بشأن ديني، فآيا صوفيا مزار تاريخي ثقافي، يجمع المسجد بالكنيسة والصرح والمتحف بالآثار، بالتالي فإن التصرف بمصيره وحسمه باتجاه تعريف واحد من بين تعريفاته الكثيرة، هو شكل من أشكال احتكار التاريخ وإقصاء آخرين عنه، تماماً كما لو ارتكبت السلطات الإسبانية اليوم جريمة تحويل مساجد الحقبة الأندلسية إلى كنائس مثلاً، أو لو علت أصوات تنشد إعادة آيا صوفيا نفسها كنيسةً على ما كانت عليه قبل أكثر من خمسة قرون.
يمتلئ عالمنا بالجدران وبالجسور. جدران ضّد الغرباء الفقراء والملونين والمهمشين والمختلفين والمهجرين، وجسور تُشيد فوق التاريخ لتربط حاضراً مركَّباً بماضٍ سحيق مبسَّط، بلا أي اعتبار لقرون شهدت تحولات وتطورات جعلت الحدث المؤسِّس المُراد استحضاره وتأويله من خلال ذلك الجسر، عديم المعنى الآن وهنا. أشهر أنواع تلك الجسور هو ذاك الذي لا يتوقف عن التمدد لربط يوميات أيامنا بحيثيات عمرها من عمر الانقسام الكبير بين السنة والشيعة، وذلك الجسر الآخر الذي بُني بعد سلفه بثلاثة قرون تقريباً بين جماعتي الكنيسة من الشرقيين والغربيين، وثالث ارتفع بين الغربيين أنفسهم كاثوليك وبروتستانت، وقد عَبَرته جيوش جرارة كثيرة لخوض حروبها الدينية. إعادة آيا صوفيا مسجداً أو كنيسة قد تكون نوعاً من هذه الجسور التي لا تحترم التاريخ.
لو يترك حكام العالم الإرث الحضاري وشأنه لفعلوا عين الصواب. لهم الحاضر كله، لهم التحكّم بحيوات الملايين وموتهم، لهم الأبنية والجدران والجسور، فليرحموا التاريخ ويتركوه مفتوحاً، والمتحف تعريفاً هو بيت التاريخ الذي لا يمكن أن يكون إلا مشرع الأبواب على القراءة وإعادة القراءة. هو ملك للبشرية كلها، ولا فضل لحكام اليوم فيه، ذلك أن المعلم الثقافي، أكان دار عبادة أو متحفاً أو مسرحاً تاريخياً أو منشأة عظيمة أو حتى سوراً، صودف أنه يقع جغرافياً في حدود بلد ما، وبنيته الهندسية الهشة لا تحتمل حفر طرقات وأنفاق لأهداف سياسية محدودة.