"كاريش" ومساومة حزب الله
بدأ أول حقول الغاز شرق المتوسط بالإنتاج في عام 2013 من حقل تامار الإسرائيلي، وقد جاء افتتاحه وبداية الضخّ منه لتعويض إسرائيل عن خطوط الغاز التي قُطعت في عام 2011 من مصر، وكانت إسرائيل قد بدأت بالعمل على اكتشاف الغاز شرقي المتوسط في وقت مبكر من بداية القرن الحالي، وتوصّلت الشركات التي أعطيت حق الاستكشاف إلى كمياتٍ ذات مردود اقتصادي جيد، ما جعل الأنظار تتجه بقوة نحو المنطقة، باعتبارها خياراً جديداً للطاقة. بعد حقل تامار، افتتح حقل ليفياثان القريب منه في 2019، والحقلان ينتميان إلى حوض واسع يحتوي على الغاز الطبيعي، ويمتد من خليج إسكندرونة حتى الحدود الجنوبية لقطاع غزة مع مصر، ما يجعل الحدود البحرية لمناطق النفوذ في هذا الحقل بمنتهى الأهمية، فهناك قبرص وتركيا ثم إسرائيل ولبنان.
وبينما كانت الأنظمة العربية مشغولة في إخماد الثورات المندلعة ضدها، كانت إسرائيل تستقدم مزيداً من شركات التنقيب والاستثمار شرقي المتوسط، وكان من المقرّر أن يدخل حقل كاريش في الاستثمار أواخر الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، ولكن الضخّ تأجل، فقدّمت الولايات المتحدة خطة وساطة بين إسرائيل ولبنان لترسيم الحدود البحرية، على اعتبار أن الخلاف شديد بينهما على هذه الحدود، وعلى ملكية حقل كاريش بالذات، وكانت الحكومة اللبنانية قد قدّمت تصوّرها لهذه الحدود بخط سمّي خط 29 يجعل جزءاً من حقل كاريش يدخل ضمن المياه الإقليمية اللبنانية، ويأتي التدخل الأميركي في وسط جلبةٍ عالميةٍ بشأن الطاقة، وبالذات بشأن الغاز القادم في معظمه من روسيا التي ترغب الولايات المتحدة في عزلها واستثمار كل قطرة غاز في العالم، لتحرم الاقتصاد الروسي من عموده الفقري، فقد ساهمت شركاتُها في تطوير حقول شرق المتوسط، ولديها أسهم في حقول تامار وكاريش وحقل أفروديت الواقع جنوب جزيرة قبرص.
تصدّع الساحة السياسية في لبنان ووجود حكومة لتصريف الأعمال نتيجة فشل البرلمان في اختيار حكومة تحظى بأغلبية، وفشله أيضاً في ترشيح رئيس للجمهورية، ولم يبق في ولاية ميشيل عون سوى أيام، يعني خواءً سياسياً، ما سيعطي المجال ليفرض حزب الله رؤيته الخاصة التي تتمثل في إظهار التشدّد وتعطيل الاتفاق، فالحزب المرتبط بإيران يتحرّك وفق رؤية عامة للمصلحة الإيرانية التي تتطلّع إلى إنجاز اتفاقها النووي مع الولايات المتحدة، والعودة إلى معاهدة خمسة زائد واحد، وتعتقد أن هذه المعاهدة ستؤدّي إلى انفراج في شوارع إيران وتقلّص حركة الاحتجاج المتنامية. وتعطيل الاتفاق اللبناني الإسرائيلي يمكن أن يجعل أميركا تُظهر مرونة في محادثات الملف النووي، لأنها تريد إنجاز ترسيم الحدود لوضع حقل كاريش في الإنتاج فوراً، وقد تأجّل الضخ إلى ما بعد الاتفاق.
لبنان الغارق في أزمات اقتصادية عميقة بحاجة ماسّة أيضاً إلى الغاز المطمور في أعماق المتوسط، وهو غير قادر على الوصول إليه ما لم يتم الاتفاق. وحتى بعد إنجازه فإنّ لبنان بحاجة إلى استثمارات ضخمة للبحث والتنقيب، وبحاجة إلى مزيد من الوقت لإقامة المنشآت البحرية والميكانيكية واللوجستية الخاصة بالاستخراج والتسويق. وخسارة الوقت تعني مزيداً من استنزاف الحوض الغازي عبر الضخّ من الحقول على الجانب الإسرائيلي. وتعطيل مبادرة ترسيم الحدود بعد التعديلات التي وضعتها الحكومة اللبنانية سيشكّل ذريعة للحكومة الإسرائيلية ذات التركيبة الهشّة، والتي تلقى معارضةً من كل حدب وصوب لإقرار الاتفاق حسب الصياغة الأميركية، رغم أن رئيس الوزراء السابق نفتالي بنيت ينظر بتحفّظ إلى الورقة الأميركية، فيما ترفضها المعارضة بشكل قاطع، وتدعو إلى بدء العمل في حقل كاريش، وهذا يعني اختبارا لجدّية حسن نصر الله بعد أن أطلق تهديدا بالهجوم على الحقل فيما إذا بدأ الإنتاج منه قبل توقيع الاتفاق، وهو تهديدٌ يحمل ضمنه إمكانية القبول باتفاقٍ ما، وهذا يعزّز نظرية المساومة التي يقوم بها حزب الله لمصلحة إيران في ملفها النووي.