"فاطمة .." الهوية والوطن
يعكس الصديق الأديب محمد عبد الكريم الزيود عشقه المكان، واهتمامه الكبير بحكايا القرى والمدن وقصص الأردنيين في روايته الجديدة "فاطمة... حكاية البارود والسنابل" (الآن ناشرون، مدعوم من وزارة الثقافة، عمّان، 2021)، التي وإن أخذت قالباً سردياً روائياً، فإنّها تحمل في مضمونها نصّاً أدبياً بمضمونٍ علميٍّ، يتناول تاريخ القرى والأمكنة والتعريف بالثقافة التراثية الأردنية.
الكتاب رحلة جميلة ممتعة في التاريخ الأردني، يضع بصمته في تطوّر بعض العشائر والبلدات والقرى اقتصادياً واجتماعياً نحو الحياة المدنيّة والاستقرار والزراعة، ثم العلاقة مع الدولة والجيش. وإذا كان يركّز على منطقة الهاشمية (قرية الكاتب)، فإنّ ما يتضمنه يمكن، عملياً، إسقاطه على ما جرى في أغلب مناطق الأردن، في استنطاق معالم التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية.
يقول لي الزيود إنّه استوحى فكرة الرواية من نص للروائي الأردني هاشم غرايبة، عن قصة آمنة (تزوجت من عسكري وجابت معه المعسكرات وشهدت معه أحداثاً عدة)، فخطر في باله أن يتحدّث عن حكاية فاطمة، المرأة البدوية التي تعكس شخصية آلاف النساء الأردنيات وحياتهن وكفاحهن، من الجيل الذي شهد عقد الاستقلال وبداية بناء المملكة مع الملك الحسين بن طلال (الرواية تستحضر استشهاد الملك المؤسس عبد الله الأول في بداية الخمسينيات)، وهو الجيل الذي انتقل من حياة التنقل والرعي إلى الزراعة والاستقرار، ثم أصبح الجيش العربي الماكينة التي يتم من خلالها إدماج نسبة كبيرة منهم في الدولة، ومن يكمل تعليمه يُعيَّن في الوظيفة الحكومية.
يمكن أن نلمس في كتاب "فاطمة..." البحث الجدّي المكثّف لدى جيل من المثقفين والشباب الأردنيين عن الهوية الوطنية الأردنية، وهي هوية نلمس بصماتها في الرواية، من خلال الحديث عن قيم البداوة (البساطة، المحبّة بين الناس، التعاون وغياب الطبقية الفجة)، والأرض والزراعة، والجيش والعلاقة البنيوية مع الدولة، والقضية الفلسطينية (الشهداء الأردنيون في القدس)، الرموز والشخصيات التاريخية (في الرواية ماجد العدوان، صايل الشهوان، عواد القلاب، حسن الزيودي، تمر الغويري وحابس المجالي وغيرهم)، والعادات الأردنية والثقافة التقليدية (الدحية والمهيجنة، وحصاد القمح، التراويد، المريس ... إلخ)، وسرّ المكان، وهو أمرٌ يتميز فيه الزيود، إذ يبحث في نشأة القرى وتحوّلاتها والمناطق المختلفة والحكايا وقصة الإنسان الأردني والأرض (يتحدّث في الرواية عن قصة العالوك والهاشمية وحي الغويرية ومدينة الزرقاء، والقرى والأماكن المختلفة، مثل صروت، موبص، الحوايا، السخنة، وسيل الزرقاء، وطواحين عدوان، ودعه، غريسا، جبل المطوق، مقام الولي زيدان..).
ربما أحد الأسباب التي تفسّر الانشغال الشديد والهائل لدى جيل من الشباب والمثقفين الأردنيين اليوم بموضوع الهوية الوطنية هو الشعور بأنّ الدولة لم تسع على مرّ العقود الماضية إلى بناء إطار واضح للهوية الوطنية، يستدعي التاريخ والجغرافيا والعلاقة بين الإنسان والأرض، والرموز التاريخية والسياسية، فهنالك قحطٌ واضحٌ في الثقافة الوطنية الأردنية في هذا المجال، سواء كان عن عدم إدراك لدى مؤسسات الدولة لأهمية الموضوع أو لأسباب أخرى، فإنّ جيل الشباب الأردني يبدو اليوم، وهو على أبواب مئوية الدولة الثانية، يبحث عن ذاته، عبر الحفر في الأحداث التاريخية والتطورات المجتمعية والتراث الثقافي، وهو مجالٌ ما يزال خصباً في الأردن، مقارنة بدول ومجتمعات أخرى، مثل العراق وسورية ومصر ولبنان والمغرب وغيرها، لديها تراكم كبير من الدراسات المتنوّعة في الحقب التاريخية المختلفة والرموز الوطنية والسياسية وتشكلات الذات الوطنية.
المهم ألا ينقلب الحديث عن الهوية الوطنية إلى تقوقع على الذات ورفض للتطوير والتحديث، والجمود على بعض العادات والمفاهيم والأوضاع التاريخية، فما تؤسّس له سردية فاطمة هي هوية تنطلق من فهم التاريخ والتحولات والتطور المجتمعي والثقافي لفهم الذات والانطلاق نحو المستقبل، فالهويات الفاعلة هي المنفتحة المتطوّرة الديناميكية التي تستوعب المتغيرات، وتحتضن الجميع من أبناء الوطن، ولا تقتصر على فئات أو ظروف أو تقاليد معينة.
هل يمكن أن نجمع بين هذه وتلك؟ سردية المكان والزمان والإنسان والحكاية من جهة والتقدّم والتطور والتعامل مع التطورات من جهة أخرى، تلك هي الوصفة المطلوبة اليوم.