رهائن المساومات السياسية [1-4]... عرب يهربون من أوطانهم بحثاً عن مواطنة
وقع آلاف العرب من سورية والعراق واليمن رهائن للمساومات السياسية بين بيلاروسيا ومن ورائها روسيا وبولندا وليتوانيا ومن خلفهما الاتحاد الأوروبي، إذ استدرجهم نطام مينسك لإمساك أوراق يمكنه عبرها تخفيف العقوبات الأوروبية المفروضة عليه، ونيل اعتراف يبدو أنه في الطريق إليه بعدما تواصلت معه المستشارة الألمانية.
"العربي الجديد" في هذا الملف تتابع العالقين بدءا من بلدانهم وتوثق أحلامهم وآلامهم وآمالهم المحاصرة وراء الأسلاك الشائكة.
"لماذا لا يفتحون الحدود؟"، يتساءل اللاجئ السوري محمد المتحدر من مدينة حلب مفضلا عدم ذكر اسمه الكامل، بينما يتحدث إلى "العربي الجديد" في موقعه على الحدود البيلاروسية البولندية آملا، ورفاقه في العبور إلى الاتحاد الأوروبي للحصول على حق اللجوء بإحدى دوله الغربية.
وقع محمد وأغلب العالقين في المخيم عند معبر "بروزغي - كوزنيتسا" بالقرب من مدينة غرودنو البيلاروسية، ممن تحدثوا لـ"العربي الجديد" في فخ عصابات المهربين الذين أوهموهم بإمكانية العبور إلى الاتحاد الأوروبي مقابل مبلغ 3 آلاف دولار أميركي تقريبا شاملة خدمات استخراج التأشيرة البيلاروسية وتذكرة السفر والإقامة في فندق في العاصمة مينسك لبضعة أيام قبل التوجه إلى الحدود، والتي تشهد تجمعا يقدر بـ 4500 لاجئ على الحدود البولندية وفق تقديرات سلطات وارسو ويتفق الناشط السوري المدافع عن حقوق اللاجئين، معز أبو الجدايل في اتصال مع "العربي الجديد" من استوكهولم، ونائب رئيس حركة "من أجل الحرية" البيلاروسية المعارضة، أليس ميخاليفيتش، في توقعاتهما بأن احتواء أزمة اللاجئين من قبل مينسك مرتبط بتخفيف العقوبات الأوروبية المفروضة عليها منذ واقعة اعتراض طائرة شركة " رايان إير Ryanair " التي كان يستقلها الصحافي البيلاروسي المعارض، مؤسس قناة "نيكستا" على "تيليغرام"، رومان بروتاسيفيتش، في نهاية مايو/أيار الماضي.
إلا أن عضو مجلس جمهورية بيلاروسيا (الغرفة العليا بالبرلمان)، إيغور غيديتش، يحمّل الغرب المسؤولية عما آلت إليه الأمور في الشرق الأوسط وبالتالي تدفق اللاجئين إلى أوروبا.
الكمامات وسيلة للتدفئة
يقول محمد في حديثه لـ"العربي الجديد": "لا نقصد لا بولندا ولا ليتوانيا، ليسمحوا لنا فقط بالعبور. أحد أقربائي يعمل طبيبا في ألمانيا، وآخر يدرس، وأنا أريد أيضا العمل والدراسة. والدي معتقل في سورية، وباقي أفراد العائلة مشتتون حول العالم، ولم يعد يربطني شيء بسورية".
يمتد المخيم الذي يؤوي اللاجئين العالقين، لبضع مئات من الأمتار في المنطقة الفاصلة على الحدود البيلاروسية البولندية، ويشعل قاطنوه النار للتدفئة بها، وسط انخفاض درجات الحرارة إلى مستويات لم يعتادوا عليها في بلدانهم الأصلية، مما أدى إلى اعتمادهم الكمامات الطبية كوسيلة للتدفئة لا الحماية من فيروس كورونا.
ومع ذلك، لا يستسلم الأطفال الموجودون في المخيم لليأس، بل يلعبون مع أصدقائهم. وبعد فقدانهم الأمل في فتح الحدود، حاول العديد من اللاجئين عبورها خلسة، ومنهم محمود المتحدر من كردستان العراق والذي يفضل كغيره عدم ذكر اسمه كاملا، قائلا لـ"العربي الجديد": "تمكنت أولا من عبور الحدود في محيط مدينة بريست، ولكن الشرطة البولندية اعتقلتني لمدة ثلاث ليال، ثم أعادتني إلى بيلاروسيا، فتوجهت إلى غرودنو حتى أجرب حظي مرة أخرى".
أما السيدة المسنة، بيان أحمد، المتحدرة من كردستان العراق أيضا، ففقدت تماما الاتصال بنجلها الذي عبر الحدود برفقة زوجته وأبنائه الثلاثة، ثم اعتقلتهم الشرطة البولندية. ومع إطالة أمد بقائهم عالقين على الحدود، تحول أقصى طموحات بعض اللاجئين إلى حلم العودة إلى أوطانهم رغم تردي الظروف الاقتصادية والأمنية فيها.
وهكذا يؤكد عبد الله المتحدر من مدينة البصرة، أنه حاول أن يعود إلى العراق برفقة أبنائه الخمسة، ولكن السلطات البيلاروسية لم تسمح له بمغادرة المخيم بسبب انتهاء مدة تأشيرته، مما يزيد من مرارة وضعه.
منح اللجوء إلى ستة لاجئين في ليتوانيا
لا تقتصر محاولات اللاجئين في الوصول إلى أراضي الاتحاد الأوروبي على عبور الحدود عبر بولندا، بل هناك أكثر من 4 آلاف آخرين لا يزالون عالقين على الحدود الليتوانية، ويكشف لاجئ سوري فضل عدم ذكر اسمه، أنه وصل إلى الحدود البيلاروسية الليتوانية قادما من موسكو بعد انتهاء أوراق إقامته الروسية وعدم تمكنه من تمديدها.
ويقول هذا اللاجئ في اتصال مع "العربي الجديد" من معسكر للاجئين في ليتوانيا: "اتفقت مع سائق سوري يدعى مصطفى حتى ينقلني إلى بيلاروسيا مقابل ألف دولار، ويحصل المهرب حتى يساعد في عبور الحدود عبر الغابة على 400 دولار في مقابل الشخص الواحد، ولكن الشرطة الليتوانية أوقفتنا وأودعتنا في معسكر مغلق، حيث ننتظر صدور الأحكام. حتى الآن ترفض السلطات الليتوانية طلبات اللجوء لجميع اللاجئين العراقيين بحجة أن بلدهم آمن. أما نحن السوريين، فنستند إلى أنه في حال عودتنا إلى سورية، فسنضطر للالتحاق بالجيش وقتل البشر، ولكن أيا منا لم يحصل على حق اللجوء حتى الآن، ويتم تهديدنا جميعا بالترحيل إلى بلدينا".
وحول دوافعه لمغادرة موسكو باتجاه أوروبا، يضيف: "دخلت روسيا بشكل نظامي بموجب تأشيرة مدتها ستة أشهر، ولكنني لم أتمكن من استخراج أوراق الإقامة، فتعرفت على مهرب عبر موقع "فيسبوك"، وقمت بدفع ثمن خدماته عبر مكتب في تركيا بواسطة أحد أصدقائي، وتوجهت إلى الحدود الليتوانية.
تحولت أقصى طموحات بعض اللاجئين إلى حلم العودة لأوطانهم
وتؤكد السلطات الليتوانية أن إجمالي عدد اللاجئين في المعسكر الحدودي يبلغ نحو 4200، أكثر من 4 آلاف منهم عراقيون وصلوا إلى بيلاروسيا بموجب تأشيرات سياحية، بالإضافة إلى نحو 100 سوري وصلوا قادمين من روسيا ولكن ستة من بين العدد الإجمالي فقط هم من مُنحوا حق اللجوء.
ضحايا بيلاروسيا واليمين الأوروبي
يقلل أبو الجدايل من واقعية فتح الحدود الأوروبية أمام اللاجئين، قائلا: "ترفض الحكومتان اليمينيتان في فيلنوس ووارسو فتح الحدود أمام اللاجئين والمهاجرين، وحتى الدول المضيفة مثل ألمانيا والسويد لم تعد قادرة على استيعاب مزيد من اللاجئين بعد استقبالهما مئات الآلاف من الفارين من سورية في عام 2015، حين كان هناك اعتراف دولي بأن الوضع في سورية يشكل كارثة إنسانية. وحتى السويد اليوم لم تعد تمنح حق اللجوء بشكل عشوائي، وإنما فقط للسوريين الذين يتمكنون من إثبات أن مناطقهم غير آمنة".
ويرى أن اللاجئين تحولوا اليوم إلى "رهائن" مشكلات السياسية أكثر من كون معاناتهم مسألة إنسانية، ويضرب مثلا على ذلك بالقول: "حسب قوانين اللجوء، عندما يهرب اللاجئ من بلده يجب أن يتقدم بطلب لجوء إلى أول بلد يصله، وتقوم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بمتابعة قضيته وإيجاد حلول دائمة له، ولكن عندما كانت الأزمة السورية في أوجها، تغاضى الاتحاد الأوروبي عن هذا القانون، لكن الآن، لم يعد الوضع كذلك"، مما يعرقل وصول اللاجئين إلى أوروبا الغربية.
وتعد "بيلاروسيا الطرف المسؤول عن الأزمة الراهنة كونها منحت تأشيرات سياحية لمواطني سورية والعراق، من دون التأكد من تطابق الهدفين المعلن والفعلي من السفر" كما يرى أبو الجدايل، مشيرا إلى أن "هناك احتمالات كثيرة لتطور الوضع، ومنها، على سبيل المثال، احتمال كبير أن تقبل بيلاروسيا في نهاية المطاف بتولي إعادة اللاجئين إلى بلدهم مقابل تخفيف العقوبات المفروضة عليها وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل أزمة طائرة بروتاسيفيتش".
أهداف المساومة
يذكّر نائب رئيس حركة "من أجل الحرية"، بأن وزارة الخارجية البيلاروسية أعلنت بعد إغلاق المجال الجوي فوق بيلاروسيا وفرض الحزمة الرابعة من العقوبات، عزمها على تعليق التعاون مع الاتحاد الأوروبي في قضايا الهجرة غير الشرعية ما لم يعدل الغرب عن قراراته.
ويقول ميخاليفيتش الذي ترشح في انتخابات الرئاسة البيلاروسية في عام 2010، لـ"العربي الجديد": "أعمال السلطات البيلاروسية بهدف رفع أو تخفيف العقوبات الأوروبية من دون التزام باحترام حقوق الإنسان وإجراء انتخابات جديدة نزيهة والاعتراف بوقوع حوادث تعذيب والإفراج عن المعتقلين السياسيين"، وهو ما يطلق عليه الناشط الحقوقي أبو الجدايل، ، "إرهاب الدولة" عبر ممارسة الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، ضغوطا على الاتحاد الأوروبي عبر البوابة الليتوانية تارة، والبولندية تارة أخرى"، لكن عضو مجلس جمهورية بيلاروسيا، إيغور غيديتش، يحمّل الغرب المسؤولية عن "إشعال الحرائق" في البلدان التي قدم منها اللاجئون، مشددا على أن جميعهم دخلوا الأراضي البيلاروسية بصورة قانونية.
ويقول غيديتش في تصريحات لـ"العربي الجديد": "نقدم مساعدات لمن وصل إلى هنا نتيجة لظروف ما. أشعل الغرب الحرائق في البلدان التي يهرب منها البشر، والآن ينتهك الأوروبيون أحكام القانون الإنساني. دخل جميع اللاجئين بيلاروسيا بشكل قانوني".