تصب محطات صرف صحي ليبية متهالكة مخلفات سائلة في البحر الأبيض المتوسط مباشرة دون معالجة شرقا وغربا، بينما تتسرب المياه الملوثة من الأنابيب المهترئة لتنتشر الأمراض والأوبئة بين الأهالي بسبب إهمال مستمر منذ عقدين.
- أُصيبت الطفلة الليبية فرح عطية عميش (12 عاما)، بداء الليشمانيا (عدوى طفيلية) في إبريل/نيسان 2023 جراء تعرضها للدغة ذبابة الرمل (تتغذى عن طريق لسع جلد الإنسان والحيوان) المنتشرة حول برك مياه الصرف الصحي في حي الأكواخ بمدينة طرابلس، حيث تعيش أسرتها مع 80 عائلة، تعاني من الروائح الكريهة التي تكونت بسبب المياه المتسربة من شبكة الصرف الصحي المتهالكة، والتي تحولت إلى بؤر لتكاثر الحشرات الناقلة للمرض، كما يقول والدها لـ"العربي الجديد".
وتنتشر برك مياه الصرف الصحي كذلك في أحياء فشلوم والأندلس وأبو سليم وباب بن غشير في طرابلس، بحسب إفادة بدر الدين قاجة، المدير السابق لإدارة شؤون الإصحاح البيئي والتفتيش الصحي في بلدية طرابلس.
ويتكرر الحال في أحياء القوارشة، وعمارات السرتي والماجوري والفويهات والليثي بمدينة بنغازي شمال شرق البلاد، وفي حيي عبد الكافي والطيوري بمدينة سبها جنوب غرب البلاد، وحي البلاد في درنة شمال شرق البلاد، وفي وسط مدينة أوباري جنوب ليبيا جراء تهالك شبكة الصرف الصحي وتوقف محطات المعالجة عن العمل، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن توقف محطة الهضبة لمعالجة المياه والصرف الصحي بمدينة طرابلس في عام 2014، أدى إلى انتشار البعوض والأوبئة بالمناطق المحيطة بها، كما أسفر توقف محطة القوارشة في مدينة بنغازي عن العمل في عام 2014 عن نفس التداعيات الصحية الخطيرة كما يقول ناصر بوحلاق، نائب مدير إدارة المرافق العامة في بلدية بنغازي، مضيفا لـ"العربي الجديد": "رغم صيانة المحطة وإعادة تشغيلها بقدرة 4 بالمائة إلا أنها توقفت عن العمل مجددا في عام 2017".
توقف محطات معالجة الصرف الصحي
بدأ التوقف التدريجي وإهمال 24 محطة معالجة لمياه الصرف الصحي منذ عشرين عاما، الأمر الذي أدى إلى انخفاض معدل المياه المعالجة إلى 4.2 بالمائة في عام 2006، بعد أن كان المعدل السنوي للمعالجة 50 بالمائة منذ عام 1990، وفق تأكيد حسين اشتيوي، الرئيس السابق لإدارة مراقبة الجودة بالشركة العامة للمياه والصرف الصحي (خلال الفترة بين 2009 وحتى 2010)، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن منظومة الصرف الصحي تنقسم إلى شبكات واسعة يفترض أن تنقل المخلفات السائلة من المنازل والمصانع والمستشفيات والمرافق الخدمية الأخرى في عموم البلاد إلى محطات جمع ورفع مياه الصرف الصحي، ومنها إلى محطات المعالجة لتقوم الأخيرة بفصل مكوناتها السائلة والصلبة، واستخلاص مياه لري المشاريع الزراعية واستخلاص المكونات الصلبة لصناعة الأسمدة، والتقليل من نسبة المياه الملوثة التي تتدفق إلى شاطئ البحر.
برك الصرف الصحي في المدن الليبية تنشر الأوبئة والأمراض
وبلغت كمية الصرف الصحي الناتجة عن المنازل والمصانع والمستشفيات في طرابلس مليونا و270 ألف متر مكعب يوميا حتى عام 2017، ومن بينها 80 ألف متر مكعب كانت تعالج، ومع نهاية عام 2021، ارتفعت الكمية لتصل إلى مليون و480 ألف متر مكعب يعالج منها 93 ألف متر مكعب، وفق تأكيد المهندس عبد العزيز صالح، الذي يعمل في قسم الصيانة بمحطة معالجة مياه الصرف الصحي في مدينة تاجوراء شمال غرب ليبيا، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن استمرار بقاء محطات المعالجة دون صيانة طيلة العقد الماضي، ضاعف من مشكلة الصرف الصحي في البلاد، معيدا سبب عدم وجود الصيانة إلى غياب الخبرات المحلية.
لكن اشتيوي، يرى أن الأمر سببه الأساسي تعثر توريد قطع الغيار، بسبب الحصار الاقتصادي الدولي الذي فرض على ليبيا في تسعينيات القرن الماضي، مؤكدا أن ليبيا تعاقدت مع شركات إيطالية لصيانة محطات المعالجة، وزيادة قدرتها التشغيلية بما يتناسب مع حجم النمو السكاني واستهلاك المياه، على أن تبدأ أعمال الصيانة في عام 2011، لكن تلك الشركات غادرت مع بدء الحرب في البلاد، ورفضت العودة إلى حين توفر الظروف الأمنية، ما أدى إلى استمرار بقاء المحطات دون صيانة.
صرف المخلفات غير المعالجة في البحر
تلقى مياه الصرف الصحي في البحر المتوسط مباشرة دون معالجة، أو تتسرب عبر أنابيب الصرف المتهالكة وتتجمع على شكل برك كبيرة داخل الأحياء السكنية، حسبما يقول بوحلاق، مؤكدا على وجود 41 مصبا لمياه الصرف الصحي على ساحل طرابلس، و36 مصبا على ساحل بنغازي.
وتسحب مياه الصرف الصحي من البرك المنتشرة في الأحياء السكنية عبر ناقلات تتخلص منها في أحواض محطات المعالجة، والتي بدورها تصرفها في البحر دون معالجة، الأمر الذي أدى إلى تلوث مياه الشاطئ، وفق المهندس صالح.
24 محطة معالجة لمياه الصرف الصحي مهملة منذ عشرين عاما
وتبدو خطورة التلوث عبر نتائج دراسة "تعيين تراكيز العناصر الثقيلة في مياه البحر الشاطئية القريبة من مخارج مياه الصرف الصحي غير المعالجة بمدينة طرابلس"، والتي استهدفت رصد مصبات مياه الصرف الصحي غير المعالجة في الشواطئ البحرية داخل مدينة طرابلس، مثل الموجودة في مناطق تاجوراء الفناء وسوق الجمعة وميناء الشعاب وخلف ذات العماد وأمام فندق أبو ليلى وباب قرقارش وجنزور، إذ تكشف الدراسة وجود تلوث بالمعادن الثقيلة، فاق تراكيزها المعيارية، حيث "تراوحت متوسطات تراكيز عنصر الزئبق Hg في عينات مياه البحر الشاطئية القريبة من مخارج مياه المجاري بين 0.1 مليغرام/لتر أدنى قيمة متمثلة في عينات مياه المنطقة خلف ذات العماد و0.17 مليغرام/لتر أعلى قيمة عند المنطقة أمام برج أبو ليلى، يليها منطقة باب قرقارش بمتوسط تراكيز قدره 0.15 مليغرام/لتر، علماً أن الاشتراطات الليبية للحدود المسموح بها لمياه الصرف غير المعالجة، ونسبة الزئبق تصل إلى 0.0003 مليغرام/لتر.
أما تراكيز الرصاص pb تتراوح بين 0.01 و0.024 مليغرام/لتر في عينات مياه البحر الشاطئية، وتعتبر هذه القيم أقل بكثير من القيم المنصوص عليها ضمن الاشتراطات الليبية للحدود المسموح بها لمعدن الرصاص (1.0 مليغرام/لتر) في مياه الصرف الصحي غير المعالجة، رغم ذلك تبين وجود القيم العالية في مواقع جنزور وتاجورا الفنار وأمام برج أبو ليلى عند مخارج تصريف مياه المجاري"، موضحة أن "متوسط تراكيز الرصاص الطبيعية في مياه البحر غير الملوثة يصل إلى 0.0003 مليغرام/لتر".
كما "أدى تصريف مياه المجاري إلى تغير ملحوظ في لون مياه البحر ورائحتها، خاصة الشواطئ المقابلة لمخرج تصريف باب قرقارش وميناء الشعاب وبرج أبو ليلى خلف ذات العماد وسوق الجمعة وتاجوراء الفنار، حيث كان لون المياه يميل إلى البني الفاتح وتفوح منه رائحة البيض الفاسد (كبريتيد الهيدروجين)، وقد امتد هذا التأثير إلى صخور الشواطئ ورمالها في هذه المناطق وأصبحت سوداء اللون"، وفق ما جاء في الدراسة المنشورة في المجلة الليبية العالمية بجامعة بنغازي في ديسمبر/كانون الأول 2016، والتي خلصت إلى أن "تغير اللون نتيجة ارتفاع مستوى التلوث البكتيري".
وحذرت نتائج الدراسة، التي أعدها الباحثون خالد يحيى العزابي، وعائشة محمد الأعور، ومسعود طريش، وعزيزة الشتيوي، وفاطمة الغرياني، من خطورة "الصيد والسباحة في المناطق القريبة من هذه المخارج والمصبات، بسبب تغير لون ورائحة مياه هذه المناطق الشاطئية".
مخاطر صحية وبيئية
"تقدر مخلفات الصرف الصحي التي تنتج عن مجمع سكاني به مليون شخص بما يزيد عن 250 ألف متر مكعب يومياً، ويحتوي اللتر الواحد من هذه المياه على 2 إلى 3 بلايين ميكروب، ونتيجة لهذا التلوث الميكروبي تتضح مدى الخطورة في انتقال ميكروبات الكوليرا والتيفود ومسببات الإسهال والعديد من الأمراض الأخرى إلى الإنسان من المياه الساحلية لحوض البحر الأبيض المتوسط، والذي يقطن سواحله حوالي 100 مليون شخص، أي إن صرفهم الصحي يقدر بأكثر من 25 مليون متر مكعب يومياً، معظمه في البحر، خاصة أن 33% من هذه المياه غير معالجة بتاتاً"، بحسب ما وثقته دراسة "تأثير مياه الصرف الصحي غير المعالجة على شواطئ مدينة طرابلس"، التي أعدها الباحثون أحمد المختار وبشير محمد وفاطمة عبدالمجيد، والمنشورة في مجلة العلوم والدراسات الإنسانية بجامعة بنغازي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
و"أثبتت تحاليل مخبرية لـ 100 عينة من التربة ومياه البحر في مناطق مختلفة على طول 10 كيلومترات بمحاذاة شواطئ مدينة طرابلس وتاجوراء، أن حوالى 35 بالمائة من عينات التربة ملوثة، و50 بالمائة من عينات مياه البحر ملوثة بالطفيليات الآدمية المسببة لأمراض الاسكارس (أحد أنواع الأمراض التي تتسبب فيها الديدان)، وعدوى الجيارديا لامبليا (معوية تتسم بتقلصات مؤلمة في المعدة وانتفاخ وغثيان ونوبات من الإسهال المائي)، والانتاميبا هيستولتيكا (كائنات حية وحيدة الخلية تعيش في التربة الرطبة والماء)"، وفق الدراسة ذاتها، وهو ما يؤكده الدكتور أحمد المسلاتي، أستاذ علم الوبائيات في جامعة العرب الطبية الحكومية في بنغازي، مشيرا إلى أن البكتيريا الموجودة في جسم الإنسان بشكل طبيعي مثل بكتيريا القولون، إذا مرت في مياه الصرف الصحي وتفاعلت مع المخلفات الطبية القادمة من المستشفيات والمصانع، تنتعش وتنتج نسبا عالية تنتشر في مياه البحر وتتحول إلى أسباب مباشرة للمرض، مثل مرض الاكزيما الخارجية (يتهيج الجلد وتظهر بثور) والتي تجعل الجلد جافا يعاني الحكة وتظهر تقرحات فيه أحيانا، كما يوضح الطبيب في مستشفى الأمراض الجلدية الحكومي في طرابلس، يحيى العبار، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أنه أشرف على 15 حالة مصابة بهذا النوع من المرض في عام 2022.
ومن الأمراض المعدية التي تنتشر في بنغازي ومناطق سيطرة حكومة الشرق الليبي، اللشمانيا الجلدية، إذ "أحصت وزارة الصحة في عام 2017 ببنغازي 624 حالة إصابة، و2727 حالة في عام 2018 "، حسب التقرير الإحصائي السنوي لوزارة الصحة التابعة لحكومة شرق ليبيا عن عام 2018.
حلول حكومية مؤجلة
"يزيد سوء الظروف السكنية والصحية (قصور إدارة النفايات أو الصرف الصحي المفتوح) من مواقع تكاثر ذبابة الرمل وانتشارها"، وفق ما جاء على موقع منظمة الصحة العالمية عن داء اللشمانيات في 12 يناير/ كانون الثاني 2023.
وبسبب تلك المخاطر شدد عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، في الرابع من إبريل 2023، على ضرورة إطلاق مشروع وطني لصيانة وتطوير محطات معالجة مياه الصرف الصحي المهملة منذ أكثر من عشرين عاما، وبالفعل أصدر في 13 نوفمبر الماضي، تعليماته ببدء العمل في تنفيذ محطات الصرف الصحي في بلديات سبها وأجدابيا ومنطقة الكويفية ببلدية بنغازي، باعتبارها الأكثر تضررا، بحسب ما جاء في الصفحة الرسمية للحكومة على "فيسبوك".
لكن اشتيوي يخشى من بقاء محطات معالجة الصرف الصحي دون صيانة، طالما أن الأعمال التي نفذتها الحكومة بهذا الشأن خلال عام 2022، ركزت على صيانة خطوط وشبكات الصرف الصحي في بعض المناطق، وليس صيانة محطات المعالجة ذاتها، وهو ما يطالب به عطية عميش، أحد سكان حي الأكواخ، حتى يتخلصوا من برك الصرف الصحي والبعوض الناقل لمرض الملاريا.