أسهمت عمالة اللاجئين، وعلى رأسهم السوريون، في دعم قطاعات التصنيع والبناء التركية، إذ يحصلون على أجور أقل ويعملون لساعات تتجاوز الحد الأسبوعي الأعلى، لكنهم يعانون من رفض مشغليهم تطبيق القانون وحصولهم على تصاريح رسمية.
- رفض رب عمل اللاجئ السوري محمد شيخاني (31 عاماً)، استخراج تصريح عمل له، رغم مطالبته المتكررة بالأمر، في محاولة للتخلص من الاستغلال الوظيفي وحرمانه التأمين الصحي، فضلاً عن إجباره على العمل لساعات طويلة تفوق المحددة في القانون التركي بخمس وأربعين ساعة أسبوعياً كحدّ أعلى، كذلك فإنه لن يحصل على أي تعويض في حال تعرّضه لإصابة عمل في أثناء دوامه في ورشة الخياطة التي يعمل بها في ضاحية باغجلار في إسطنبول.
ويُقدَّم طلب الحصول على تصريح العمل من قبل أرباب العمل، بمجرد التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، من خلال موقع e-Government أو الحكومة الإلكترونية التركية، كما يقول شيخاني، الذي عمل في تلك الورشة بعدما غادر عمله السابق في الضاحية نفسها، إثر تعرضه للضرب وسلب راتبه البالغ 2000 ليرة تركية (107 دولارات أميركية) من قبل رب العمل بعد خلاف معه، ولذلك صار يفكر في السفر إلى أوروبا، لعله يتخلص مما يصفه بـ"الاستغلال وسلب الحقوق".
حقوق مهدورة
"من بين مليوني عامل من اللاجئين في تركيا، حصل 40 ألف لاجئ على تصريح عمل"، وفق تقرير "مراقبة الهجرة" الصادر عن مكتب الهجرة التابع لحزب العمل التركي المعارض (EMEP) في العشرين من يونيو/ حزيران الماضي، ويصف التقرير ما يعانيه اللاجئون بـ"الاستغلال، إذ يعملون لساعات طويلة ودون تأمين وفي ظروف مهينة وسيئة، كذلك يحصل معظم المشاركين في العينة التي استند إليها التقرير على نصف متوسط الحد الأدني للأجور".
40 ألف لاجئ من بين 2 مليون حالة حصلوا على تصريح عمل
ويُجمع 4 عمال لاجئين من سورية وأفغانستان وأوزبكستان، التقاهم معد التحقيق، على تعرضهم للاستغلال من أرباب العمل، إذ يجبرونهم على العمل لساعات طويلة، مقابل رواتب قليلة، ودون تأمين صحي، أو الحصول على تصريح عمل، ومن بينهم الأفغاني عبد الله كاكان (27 عاماً)، الذي يعمل في رعي الأغنام بإحدى قرى ولاية قرقلار إيلي شمال غربيّ تركيا، والذي يقول إنه قبل بالعمل في هذه الظروف لأن بيئة القرية هادئة وبعيدة عن مشاكل أفغانستان التي هاجر منها عبر طرق غير شرعية قبل أربع سنوات واستقر في تركيا بحثاً عن ملجأ من العنف المستشري في بلاده، حسب قوله لـ"العربي الجديد".
وعمل السوري أحمد اليوسف (38 عاماً) بعد لجوئه إلى تركيا قبل عشرة أعوام، في ورشة خاصة في مدينة بورصة، ولكن في مقابل راتب أعلى بقليل من الحد الأدنى للأجور، مشيراً إلى أنه قبل بالأمر من أجل نيل تصريح عمل، لكن مالك الورشة ماطله عدة سنوات، قبل أن يوافق على ذلك، شرط أن تكون تكاليف التصريح مناصفة بينهما، ما يعني أنه سيحسم من راتبه الضرائب وقيمة المبالغ التي تدفع لمؤسسة الضمان الصحي والاجتماعي، ولم يجد اليوسف بداً من القبول، قائلاً: "رغم أني المسؤول عن العمال في الورش، ولكن أجري لا يتناسب مع مهامي".
وتنص الفقرة الأولى من المادة الخامسة من لائحة الحماية المؤقتة لعمل الأجانب رقم 29594 لعام 2016 على أنه "يطلب من الأجانب الخاضعين للحماية المؤقتة الحصول على تصريح عمل بعد ستة أشهر من تاريخ تسجيل الحماية المؤقتة"، فيما تنص الفقرة الثانية من ذات المادة على "تقديم طلبات تصريح العمل من قبل صاحب العمل الذي سيوظف الأجانب تحت الحماية المؤقتة". وتنص الفقرة الثالثة من المادة الـ13 على أن "الأجانب الذين تم إنهاء أو إلغاء حمايتهم المؤقتة في نطاق لائحة الحماية المؤقتة، يتم إلغاء تصاريح العمل الصادرة لهم"، وهي قوانين يفترض أن تحفظ حقوق العمال والدولة كما يقول المحلل السياسي محمد جيرن، مشيراً إلى أن أغلب الشعب التركي لا يعاني من مشكلة مع وجود الأجانب، وأرباب العمل مسرورون بالعمالة الأجنبية رخيصة التكلفة والماهرة في ذات الوقت، لكن الحملة العنصرية التي انطلقت ضد اللاجئين مدفوعة بالتوتر السائد في المشهد السياسي، في محاولة لاستغلال الظروف الحالية، وتحديداً قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة من أجل الضغط على الحكومة، ما يجد صدى لدى بعض أطياف المجتمع التركي.
كيف يسهم اللاجئون في دعم الاقتصاد التركي؟
يراوح "حجم العمالة السورية بين 750 ألفاً و950 ألف عامل، ويشكلون 2.9% من إجمالي حجم العمالة في سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي، ويتوزعون على قطاع التصنيع بنسبة 48.2% من اللاجئين السوريين العاملين، وفي البناء 36.8%، وفي قطاع التجارة 29.8%، ويحتل قطاع الشركات والمحلات التجارية المرتبة الرابعة بنسبة تصل إلى 13%، بينما يشكل قطاع الأعمال الحرة (البقالات أو محلات صيانة الموبايلات، أو مكاتب الاستشارة الطلابية وغيرها) المرتبة الخامسة بنسبة تصل إلى 6%، ويعمل 4% في قطاع المطاعم والمخابز، ويتوزع البقية بنسبة 6% في مجموعة من الأعمال الأخرى مثل صيانة السيارات، والنقل والزراعة والتعليم، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر تقرير "لاجئون سوريون في سوق العمل التركي" الذي أصدره مكتب منظمة العمل الدولية في تركيا في التاسع من فبراير/ شباط 2020، وبيانات حكومية نقلتها دراسة "العمالة السورية في السوق التركي"، وأصدرها مركز الحوار السوري (مؤسسة أهلية).
وتلقى 75% من عينة اللاجئين العاملين المشاركين في الدراسة في الحادي عشر من أغسطس/آب 2021، رواتب أقل من الحد الأدنى من الأجور البالغ 2825 ليرة تركية (151 دولاراً) (رُفع الحد الأدنى للأجور إلى 5500 ليرة في عام 2022)، وتقاضى 50% منهم متوسط أجر شهري يراوح بين 1500 و2500 ليرة (80 و 134 دولاراً)، فيما تقاضى 25% رواتب تزيد على 2500 ليرة".
ولا تقتصر عمالة اللاجئين على السوريين، إذ ينشط في سوق العمل التركي لاجئون من أوزبكستان وتركمانستان وأفغانستان والعراق أيضاً، كما يقول مصطفى محمود، الذي يملك مكتباً متخصصاً في استصدار الإقامات وأذون العمل بإسطنبول، موضحاً أن أغلب اللاجئين الأفغان يعملون بالرعي، بينما لاجئو أوزباكستان وتركمانستان يفضلون العمل في المطاعم وتوصيل الطلبات، لإتقان بعضهم للغة التركية، ومن بينهم العشريني الأوزبكي آيبك توباكوف، الذي يعمل في توصيل الطلبات بمطعم في إسطنبول، منذ وصوله إلى تركيا قبل خمس سنوات، دون تأمين صحي أو تصريح عمل، وهو ما يشكل هاجساً يتهدده في كل لحظة عمل، في حال تعرضه لأي حادث في أثناء قيادته الدراجة النارية لتوصيل وجبات الزبائن. لكن مع ذلك، فإن القليل من البقشيش الذي يحصل عليه يشعره بالسعادة، وخاصة أن الراتب الذي يتقاضاه لا يزيد على الحد الأدنى للأجور في تركيا البالغ 5500 ليرة (295 دولاراً).
مزايا تنافسية للاقتصاد التركي
بعد دخول العمالة السورية المهاجرة إلى سوق العمل التركي انخفضت تكاليف الإنتاج بسبب قلة أجور العاملين السوريين، ما أثّر مباشرةً في انخفاض أسعار المنتجات المحلية، وبالتالي في قدرتها على المنافسة الخارجية والتصدير، كذلك إن بعض مَن خرجوا من العمال الأتراك من العمالة غير الرسمية نتيجة منافسة العمال المهاجرين السوريين، تحولوا إلى التوظيف الرسمي (أصبحوا موظفين بشكل رسمي) مع توليد فرص عمل جديدة في القطاعات الإنسانية والحكومية أيضاً، وفق مقال بحثي لمحمد سالم، مدير وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري.
%2.9 نسبة السوريين في سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي
و"منذ يوليو/ تموز 2019 تأسّست 9131 شركة سورية في تركيا برأس مال مشترك، ويصل العدد إلى 20 ألف شركة في حال إضافة رواد الأعمال السوريين غير المسجلين (غير الحاصلين على إذن عمل من وزارة العمل التركية)"، بحسب ما نقلته دراسة "رواد الأعمال السوريين في اقتصاد إسطنبول" الصادرة في عام 2022 والتي جمعت بيانات اتحاد الغرف التجارية والبورصة التركية ومركز أبحاث السياسة الاقتصادية التركية، موضحة أن "عدد الشركات التي أسسها سوريون في إسطنبول منذ بداية عام 2018 حتى إبريل/ نيسان 2021 بلغت 6176 شركة"، ويتضح حجم الرقم في حال مقارنته بعدد "الشركات التي أسسها أجانب من جميع الدول الأخرى في ذات الفترة وعددها 14566 شركة".وبحسب الدراسة، فإن إجمالي رؤوس أموال الشركات السورية أو الشراكات السورية بلغ ملياري ليرة تركية (سعر الدولار الأميركي 18.65 ليرة تركية).
ويسعى المستثمرون في قطاعات الصناعة والبناء والمطاعم في تركيا، لاستقطاب عمالة من اللاجئين، نظراً لعزوف الأتراك عن العمل في تلك القطاعات، حسبما يقول لقمان آلاكوش، وهو صاحب مصنع دهانات في إسطنبول، الذي يعتمد على اللاجئين في معمله، قائلاً لـ"العربي الجديد": "أعلن حاجة المصنع لعمال ولا يتقدم الأتراك، بل من يتقدم لاجئون، أغلبهم من السوريين"، وتابع: "اللاجئون لهم دور كبير في نهضة قطاعات الخدمات والصناعة والزراعة، ولهم فائدة كبيرة على الاقتصاد لا تقدر بثمن".
لكن المشاكل التي يعانون منها تحتاج إلى معالجة ورقابة أكبر على أرباب العمل من قبل الحكومة وفرض العقوبات اللازمة، وتحديداً من أجل التأكد من حصول اللاجئين على تصاريح العمل حتى لا يُستغَلوا كما يقول محمد جيرن، وهو ما يحلم به السوري عبد الله اليوسف (28 عاماً)، الذي عمل بعد لجوئه إلى تركيا قبل 7 سنوات، سائق شاحنة براتب شهري بلغ 5500 ليرة، لكنه لم يحصل على تصريح عمل، وبالتالي لا يتمتع بتأمين صحي أو ضمان اجتماعي، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "لا أطالب رب العمل بزيادة في الراتب خوفاً من طردي، دون الحصول على أي تعويض، ووقتها لن أستطيع الإنفاق على أسرتي المكونة من زوجتي وطفلتي الرضيعة".