الزراعة في الشمال السوري... مبيدات وأسمدة مغشوشة تقضي على المحاصيل
تنتشر مبيدات وأسمدة مغشوشة ومصنعة محلياً في الشمال السوري، الذي يعاني من أزمة غذاء وسط تزايد أعداد اللاجئين ومحدودية الأراضي، ما أسفر عن خسائر متفاوتة الحجم حسب أنواع المحاصيل التي تشكل خطراً على حياة متناوليها.
- خسر المزارع السوري رضى السبع مشاتل الخضار التي خصصها لزراعة 8 دونمات في حقله بسهل الغاب في محافظة حماة شمال دمشق، عقب استخدامه مبيد ديسيس أكسبرت Decis للقضاء على الحشرات، والذي اعتاد استعماله قبل أن ينقطع عام 2014 ويعود مرة ثانية في عام 2021، لكنه لدى شرائه من إحدى الصيدليات الزراعية، لفت انتباهه أن السعر أقل مما كان عليه، إذ دفع 5 دولارات للعبوة سعة ليتر واحد، فيما كان يشتريها سابقا بـ12 دولارا.
وتكررت تجربة السبع مع 10 مزارعين عانوا من خسائر متكررة نتيجة ظاهرة التلاعب بمحتويات المبيدات والأدوية الزراعية، والتي تفاقمت إلى أن وصل الحال إلى تزوير عبوات ونسبتها لشركات معروفة وبيعها بسعر أقل من السعر الأصلي، وبالتالي تترتب عليها نتائج عكسية، بحسب ما يجمع عليه المزارعون الذين قابلهم "العربي الجديد"، ما أسفر عن تلف المحاصيل المزروعة في 647 دونما خلال الموسم المنصرم في شمال غرب سورية، وبالتالي تدهور أوضاع السلة الزراعية للسكان القاطنين في منطقة النزاع والذين يعانون أصلا من نقص الغذاء وأزمة معيشية، وفق إفادة وزارة الزراعة والري التابعة لحكومة الإنقاذ (تنشط في مناطق سيطرة المعارضة بإدلب).
ما هو حجم الظاهرة؟
خلال عام 2022، ضبطت وزارة الزراعة والري في حكومة الإنقاذ 45 عينة من الأدوية والمستلزمات الزراعية المخالفة للمواصفات والمعايير في محافظة إدلب شمال غربي البلاد، بحسب مدير مديرية المخابر والجودة ومعاون وزير الزراعة والري المهندس أحمد الكوان، الذي أشار إلى أن تلك العينات هي مستحضرات هندية وتركية وهولندية ومنها ما هو محلي. كما أغلقت فرق التفتيش 17 معملا لتزوير الأدوية والمخصّبات في إدلب وشمال حلب خلال العامين الماضيين، ما حدا بالمزورين إلى اللجوء لممارسة أعمالهم داخل صيدليات زراعية ومخازن أدوية، بحسب إفادة المهندس الزراعي ناظم الحنون، مالك متجر لبيع الأدوات الزراعية في مدينة الباب شمال حلب، مشيرا إلى خلط تلك المبيدات ومن ثم تعبئتها في عبوات تحتوي على ملصق مصانع معروفة، لكن المادة الفعالة معدومة.
إغلاق 17 معملاً لتزوير المبيدات والمخصّبات في إدلب وشمال حلب
وتزايدت عمليات غش وتزوير المبيدات والأسمدة الزراعية بشكل لافت في الفترة الممتدة بين عامي 2014 و2017، حين توقفت مؤسسات النظام المختصة عن عملها بسبب الحرب، بحسب ما رصده المهندس هايل كلش، وزير الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة (شُكّلت عن طريق مجموعة من المعارضة والائتلاف الوطني)، مؤكدا أن التزوير ينتشر في المناطق الشمالية من محافظة حلب، إذ ضُبطت العديد من المبيدات الحشرية والفطرية والعشبية المغشوشة ومنعدمة الفعالية بالأسواق، وتحمل العديد من اللصقات المزورة والتي تتناقض مع محتوياتها، ما دفع وزارة الزراعة عن طريق مؤسساتها، ومنها المؤسسة العامة لإكثار البذار، لاستيراد المبيدات الزراعية المطلوبة من المصادر العالمية الموثوقة وتقديمها بأسعار منافسة ومناسبة للمزارعين للحفاظ على الإنتاج الزراعي. وجرى ضبط أسمدة فيها نسب عالية من الكلور وتحديدا صنف اليوريا النيتروجينية المستخدم لتحسين التربة، ومصادرها معامل محلية تقوم بخلطها، ويكمن خطرها في زيادة تملح التربة وتلفها بعد عدة مواسم، كما يقول كلش.
كيف يحصل التزوير؟
وافق جميل الغلال، وهم اسم مستعار لأحد العاملين في صيدلية زراعية شمال غرب البلاد، على إطلاع معد التحقيق على آلية تحضير الأدوية والمخصبات الزراعية غير الأصلية التي تنتشر بين المزارعين، إذ ادعى الغلال، في حديثه الذي يوثقه "العربي الجديد" عبر مقطع فيديو أثناء مزجه مكونات أدوية وأسمدة، أنه يضيف عدة أدوية ومستحضرات زراعية إلى بعضها بناءاً على تجاربه وخبرته، ليجهز مستحضرات تفيد في تخصيب الإنتاج وإعطاء نتائج مرضية، زاعما أن "خلطاته تلقى رواجا لدى المزارعين وتتناسب وقدرتهم المادية، لذلك خصص عدة نقاط بيع للأدوية التي يجهزها بالاعتماد على مزج المركبات بعد انتشارها في المنطقة".
وبسؤاله عن المكونات التي يخلطها، أجاب أنه "يستخدم الفوسفور والبوتاس والكالسيوم والآزوت، أي النيتروجين، والتي تسهم في تنشيط وإخصاب المزروعات القرعية والخضار المختلفة وتكسب أوراقها اللون الأخضر".
وتكمن خطورة هذه الخلطات في أنواع وكميات وتراكيز المواد المستخدمة فيها، بحسب محمود النمر، المهندس الزراعي السابق في مديرية زراعة حماة، إذ يمكن مزج عناصر لا تتوافق مع بعضها نتيجة ضعف خبرة الشخص أو وجود نية مسبقة بالغش والتزوير، مشيرا إلى أن تركيبة التربة والمناخ والمياه المستخدمة في الري، جميعها عوامل تلعب دورا كبيرا في تحديد أنواع الأسمدة المناسبة للنباتات، ولا يمكن تعميم خلطة واحدة لأن ما يتناسب مع التربة الحمراء قد لا يناسب التربة السوداء والرملية.
ويكشف النمر، من خلال ما عاينه أثناء وجوده على رأس عمله، أن المستحضرات الأكثر تزويرا حاليا هي الأسمدة الورقية (تستخدم عن الطريق رشها على الأوراق)، إذ يستورد التاجر مثلا مادة أولية من الآزوت أو النيتروجين ويمزجها بكمية مياه كبيرة تصل إلى 5000 ليتر، ويفرغ الخليط في عبوات ويضع عليها لصقات لأسمدة معروفة ليجرى بيعها في السوق، وما يلمسه المزارعون لدى استخدام هذه الأسمدة اخضرارا بسيطا في المزروعات، لكن من دون نتيجة على الثمار، بالإضافة إلى غش المبيدات الحشرية الشائع منذ 4 سنوات، وخاصة أن الفرق التفتيشية التابعة لوزارة الزراعة والري رصدت مبيدات تحتوي على مركب كلوربيريفوس (فوسفات عضوي)، الذي يدخل في تركيبة الأنواع الحشرية، مخلوطا بمسحوق الطباشير، ما أسفر عن نتائج كارثية على المزروعات.
ما سبق يؤكده أستاذ الهندسة الزراعية في جامعة حلب مصطفى عبد الله، موضحا أن مزج مكونات الفوسفور والبوتاس والكالسيوم والآزوت غير فعال لا سيما في مجال الأسمدة الورقية، كما يحتاج ذلك المزج إلى نسب دقيقة لا يمكن إعدادها من قبل غير المتخصصين ومن دون الاستعانة بأجهزة مخبرية، وقد يؤدي مزج الفوسفور مع البوتاس والآزوت والكالسيوم إلى تفاعلات كيميائية تؤثر على نمو النبات وإخصابه، وفي بعض الأحيان تسبب تسمم النبات وتؤثر على صحة من يتناولونه.
وتؤثر ظاهر الغش والتزوير على مصدر رئيسي للسكان في مناطق شمال غرب سورية والبالغ عددهم 6.017.052 نسمة، منهم 2.016.344 شخصا في المخيمات، بحسب إحصائية صادرة عن فريق منسقي استجابة سورية (يعمل على تقييم الاحتياجات بشكل دوري للسكان والنازحين شمال غرب سورية ومستوى الاستجابة الدولية والمحلية لتلك الاحتياجات)، بتاريخ 5 يوليو 2023، وأمام تراجع إنتاجية المحاصيل الزراعية من جهة والتخفيض المستمر للسلة الغذائية التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي للنازحين، ازدادت نسبة الجوع والفقر في الشمال السوري، إذ بلغت نسبة العائلات التي وصلت إلى حد الجوع 40.67% من مجموع السكان، أما الواقعة تحت خط الفقر فبلغت نسبتها 90.93%، بحسب بيانات الفريق المنشورة في 29 أغسطس/آب الماضي.
وكان برنامج الأغذية العالمي أعلن عزمه تخفيض المساعدات في سورية بدءاً من يوليو 2023، بسبب نقص التمويل. وقال في بيان أصدره: "ترغمنا أزمة التمويل غير المسبوقة في سورية على تخفيض مساعداتنا لتشمل نحو 2.5 مليون شخص بدلاً من نحو 5.5 ملايين شخص يعتمدون عليها لتلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء"، وخفّض للمرة السادسة منذ يناير/كانون الثاني 2020 محتويات السلة الغذائية المقدمة للنازحين، إذ انخفضت قيمة السعرات الحرارية في السلة من 2066 سعرة حرارية في إلى 991 سعرة حرارية في أبريل/نيسان 2023 لكل فرد من العائلة المؤلفة من 5 أفراد.
خلط المبيدات بالكاز
لم يعد مزارع الزيتون صبحي العلي، الذي يقطن في مدينة جسر الشغور بمحافظة إدلب، يميز المبيد الأصلي من المزور الذي يغرق السوق والصيدليات الزراعية، مشيرا إلى أنه كان يستخدم ليترا من مبيد الديمثوات (حشري فوسفاتي عضوي) مع 800 ليتر ماء خلال العام 2013 ويحصل على فعالية عالية، أما اليوم ورغم تقليص كمية المياه إلى 400 ليتر، فلا فاعلية تذكر.
مبيدات ممزوجة بمشتقات نفطية تقضي على المحاصيل الزراعية
ولم يحصل المزارع طلاع السلوى، المقيم في مدينة حارم بإدلب، على محصول وفير من الخضار التي زرعها في 11 دونما خلال العامين الماضيين، رغم أنه لم يبخل على مزروعاته بالسماد الورقي والمخصبات اللازمة، ويرجح أن يكون السبب هو النوعية المستخدمة التي اشتراها بنصف الثمن الذي اعتاد دفعه سابقا، ولا يوجد أي ملصقات تعريفية على العبوة، "والغريب، أن المنتجات كانت لها رائحة نفاذة تشبه رائحة المشتقات النفطية عند استعمالها، وأعطت نتائج عكسية وبالأخص على محصول البندورة التي تدهور إنتاجها بنسبة 25% عن العام السابق".
ما لاحظه السلوى يؤكده المهندس الزراعي أيمن المحمود، مالك متجر للأدوات والأدوية الزراعية في مدينة عفرين بمحافظة حلب، كاشفا عن عمليات تزوير تقوم بها معامل محلية تفرغ عبوة المبيد بنسبة 70% من محلولها ليجرى تعويض النقص بمواد نفطية مثل الكاز أو زيت النفط، وهو ما لاحظه مزارعون عند فتح عبوات المبيدات التي يؤدي رشها على الخضار إلى نتائج كارثية، مسببة حرق الأوراق والجذور وحتى الأغصان، ومن هذه المبيدات المخلوطة بالمواد النفطية والتي رصد المزارعون انتشاره المبيد الحشري دلتا فيلد deltafield صيني المنشأ الذي يصنف الأصلي منه ضمن المبيدات الفعالة، لكن المغشوش يغزو السوق في ظل غياب الرقابة.
والأخطر في ظل حالة الفقر وندرة المواد الغذائية التي تعيشها المنطقة، تكبد خسائر كبيرة جراء استخدام المبيدات المخلوطة بالمشتقات النفطية، كما جرى لعلي أسبرو الذي يتحسر على حال بستانه في قرية بكفلا في مدينة جسر الشغور، بعد أن تساقطت أوراق وثمار شجر الخوخ عقب رشها بمبيد دلتا فيلد لمكافحة الحشرات، إذ وصل عدد الأشجار المتضررة إلى 240 شجرة خوخ من المتعارف عليه محليا باسم الجانرك. كما تضررت 8000 شجرة خوخ ولوزيات بشكل متفاوت جراء استخدام المزارعين في مدن دركوش وسلقين وريفها ذات المبيد، بحسب المهندس الزراعي بكر عبد الكريم السلامة، رئيس شعبة الرقابة الزراعية في وزارة الزراعة والري في حكومة الإنقاذ.
وواجه معد التحقيق المهندس الزراعي الذي باع المبيد المغشوش للمزارعين، والذي طلب عدم ذكر اسمه للموافقة على الحديث، نافيا مسؤوليته عن الضرر الذي لحق بالأشجار، إذ باع المبيد بناء على المعلومات الواردة على العبوة على حد قوله: "إنها المرة الأولى التي أوفر فيها هذا المنتج ولم أستعمله من قبل في صيدليتي والمشكلة تتحملها الجهة المنتجة والمستوردة، ومن الصعب التأكد من جودة أي مادة إلا بالاستعمال الحقلي وأن يتم تحليل المادة قبل بيعها بالسوق للتأكد من جودة المادة الفعالة والحاملة للمبيد".
وتشمل عمليات الفحص والتحليل للمستحضرات والأدوية الزراعية المستوردة في شمال غرب سورية، التأكد من صلاحية المادة الفعالة وصلاحية المنتج، في حين لا يتم تحليل المادة الحاملة للمادة الفعالة، كما يوضح السلامة مشيرا إلى أنه لدى تلقي شكاوى من المزارعين الذين تضرروا بعد استخدام المبيد تفحص لجنة مختصة المادة الفعالة للمبيد ويتم التأكد من مدى سلامتها، لكن المشكلة تكمن في عدم إمكانية تحليل المادة الحاملة للمادة الفعالة.
ويلوم المهندس الزراعي رامي القادري، والذي يعمل في مركز بيع أدوية زراعية في إدلب، المزارعين على اللجوء إلى تجار غير مختصين، والذين امتهنوا خلال السنوات الماضية استيراد الأدوية الزراعية أو تصنيعها من دون معرفة علمية أو خبرة، ما يجعلهم غير قادرين على تحديد المبيدات أو الأسمدة المناسبة للحقول ولبيئة المنطقة أو نوع النباتات، ونسب تركيزها، وبالتالي انتشار العديد من الأدوية مجهولة المنشأ والتي كانت لها آثار كارثية على محاصيل الخضار والمزروعات الموسمية مثل التفاح والزيتون.