امتلأت 13 مقبرة مخصصة للاجئين الفلسطينيين في لبنان والذين يعيش 80 % منهم تحت خط الفقر، ما أسفر عن أزمة البحث عن قبر لا يتوفر إلا بالدولار، بينما يتاجر سماسرة الموت بالأماكن الشحيحة المتوفرة وينتهكون حرمة المدافن.
- تحملت الستينية الفلسطينية شيخة مرعي، المقيمة في مخيم شاتيلا للاجئين جنوب بيروت، ديْناً قدره 1100 دولار أميركي من أجل شراء قبر لوالدها المتوفى قبل عامين بعد ما تعذر إتمام إجراءات الدفن في مقبرة شهداء فلسطين القريبة من مخيمي صبرا وشاتيلا، والتي يدفن الفلسطينيون موتاهم فيها منذ عام 1958.
والآن "فقط من يمتلكون قبراً قديماً ينبشونه ويدفنون فوقه" كما يقول نجل شيخة، محمد عقاب حبيب، مشيرا إلى دفن جده في مقبرة بئر حسن الواقعة خارج المخيم في الضاحية الجنوبية لبيروت، لكن النفقات لم تتوقف عند هذا الحد، والحديث لمرعي التي قاطعت ابنها قائلة: "شراء قبر والحفر ووضع المجسم والشاهد الحجري كلفنا 4600 دولار، دفعت منها 3500 دولار، بينما توسط المسؤول الفلسطيني عن عملية غسل ودفن الموتى فادي الشورى لدى أصحاب القبر، من أجل دفن الوالد إلى حين تأمين المبلغ المتبقي وتكفل أمامهم بإعادته وحالياً يضغطون عليه لاستكمال الدفع".
وتنقسم مدافن بئر حسن إلى جزأين: مقبرة شرعية تابعة للمديرية العامة للأوقاف الإسلامية في لبنان، والثانية التي تمكنت مرعي من دفن والدها فيها، وهي عبارة عن ملكية خاصة كانت حديقة خلفية للمقبرة الأساسية قبل أن تضع واحدة من العائلات يدها عليها وتتحكم بالدفن فيها، بحسب معن الخليل، رئيس بلدية الغبيري في الضاحية الجنوبية التي تقع المقبرة ضمن حدودها.
سماسرة الموت
دفعت مرعي كل ما تملك من أجل دفن والدها على الرغم من حاجتها الماسة إلى المال لعلاج نجلها الذي بترت قدماه نتيجة حادث سير، لكن انعدام الخيارات أمامها، أرغمها على القبول بما يفرضه "سماسرة الموت" كما أطلقت عليهم، في ظل انتهاء سعة 13 مقبرة مخصصة لدفن اللاجئين الفلسطينيين في 12 مخيما في لبنان، الذي يضم 549 ألف لاجئ بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني الصادرة في ديسمبر/كانون أول 2022، بينما يشير الرد المكتوب الذي تلقاه "العربي الجديد" من مكتب الأونروا في لبنان إلى أن عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لديها بلغ 489.292 شخصا حتى مارس/آذار 2023، كما تؤكد سجلات الأونروا أن 31.400 لاجئ فلسطيني من سورية يقيمون في لبنان.
ويؤكد ما سبق أن "غالبية المقابر داخل المخيمات أصبحت غير قادرة على استيعاب عمليات دفن إضافية"، كما توضح هدى السمرا، المتحدثة الإعلامية باسم مكتب الأونروا في لبنان لـ"العربي الجديد".
ويمتلك الفلسطينيون خيارين في ظل امتلاء المقابر المخصصة لهم، إما الدفن الجماعي في القبر المخصص للعائلة وتصل التكلفة في هذه الحالة إلى 200 دولار تُدفع للعمال في المقبرة، أو الدفن في مقبرة سبلين، قضاء الشوف بجبل لبنان وتبعد عن بيروت مسافة ساعة، والتي أُسست على قطعة أرض بمساحة 10 آلاف متر مربع قدمها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لكنها تبعد كثيرا عن معظم المخيمات الفلسطينية وتبلغ كلفة الدفن فيها نحو 100 دولار، بحسب توضيح محمد الحسنين، مسؤول جمعية الشفاء الأهلية للخدمات الطبية والإنسانية.
دفن جماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان بعد امتلاء مقابرهم
وعاينت معدة التحقيق لجوء الفلسطينيين إلى الدفن الجماعي خلال زيارة ميدانية في يوليو/تموز 2023 إلى مقبرة شهداء فلسطين القريبة من مخيم شاتيلا، ويبرز ذلك من خلال تعدد الأسماء على شاهد القبر الواحد، حتى وصلت في بعضها إلى خمسة، إلا أن هناك بقعة جغرافية صغيرة ما زالت متاحة، لكنها مخصصة للرموز والقادة الفلسطينيين.
ويمكن أن يجد الفلسطينيون في الدفن بمقابر خارج المخيمات حلا آخر، لكنه متاح لميسوري الحال فقط، وهي مقابر مقامة على أراض تعدّ ملكيات خاصة، وبالتالي تتحكم الجهة التي تمتلك الأرض بسعر القبر، ويبيعون لمن يدفع أكثر، كما هو الحال في مقبرة بئر حسن ومقبرة الشهداء التي تمتد من مستديرة شاتيلا شمالا بالقرب من الطريق المؤدي إلى مطار بيروت الدولي، أما في حال كانت الأراضي تابعة للأوقاف أو المجلس الشيعي أو البلدية، فتكون حصراً للبنانيين وأسعارها أقل ثمناً، وفقا للحسنين.
لكن شيخة مرعي ليست من ميسوري الحال كما تقول، و"الظروف ترغم الفلسطينيين على القبول بالأسعار التي يفرضها القائمون على المقابر"، وكونها ترفض فكرة دفن والدها في مقبرة سبلين، وافقت على المبلغ المطلوب لمقبرة بئر حسن، وتابعت لـ"العربي الجديد": "أسكن في بيروت وحتى لو كانت مقبرة سبلين جاهزة في ذلك الوقت، من غير المعقول دفن أبي فيها، وفي كل مرة سأزوره سوف أسافر هذه المسافة البعيدة عدا عن كلفة النقل، الأمر متعب مادياً ومعنوياً".
وحتى المقابر غير المخصصة للفلسطينيين أصبحت مكتظة وفقا لما رصده "العربي الجديد" في جولات داخلها، إذ كان من الصعب أن تجد ممراً داخل مقبرة الشهداء نتيجة اللجوء إلى استخدام المساحة الضيقة بين القبور لدفن الموتى، ويبلغ سعر القبر الجديد 15 ألف دولار، بينما يكلف فتح قبر قديم والدفن فيه، بين 70 و80 مليون ليرة (الدولار يعادل 90 ألف ليرة)، تضاف إليها تكلفة البلاط لتغطية سطح القبر أي حوالي 200 دولار، بحسب المعلومات التي حصل عليها "العربي الجديد" من العاملين في المقبرة.
لماذا برزت أزمة القبور؟
يوضح علي هويدي، مدير عام منظمة الهيئة 302 للدفاع عن حقوق اللاجئين (غير حكومية) أن الأزمة تعود إلى ازدياد أعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ النكبة في 15 مايو/أيار1948 وحتى اليوم بنسبة 500%، إذ كانت أعداد النازحين إلى لبنان قبيل عام 1948 وحتى عام 1950 بين 110 آلاف لاجئ وحتى 130 ألف لاجئ وقتها وبالتالي مع مرور الزمن وزيادة العدد وبسبب الاكتظاظ السكاني داخل المخيمات، امتلأت المقابر ولم يعد هناك أماكن إضافية مخصصة للدفن.
وترتبط ارتفاع كلفة القبور بالأزمة الاقتصادية التي لها وقع سلبي كبير على الفئات المهمشة، ومنهم اللاجئون الفلسطينيون كما يقول هويدي، بينما كشفت نتائج أحدث مسح لرصد الأزمات أجرته الأونروا في مارس 2023 أن 80% من لاجئي فلسطين في لبنان يعيشون تحت خط الفقر، ويوضح مكتب الأونروا أن هناك تحسنا مقارنة بنتائج المسح الذي أجري في سبتمبر/أيلول 2022 إذ إنه بدون المساعدة النقدية التي قدمتها الأونروا لـ 160.000 من الفلسطينيين في لبنان، لوصلت نسبة الفقر إلى 93%.
وضاعف ارتفاع الكلفة وجع الفلسطيني زياد حميد وشقيقيه، حين توفيت والدتهم في 8 إبريل/نيسان 2023، لعدم مقدرتهم على توفير مبلغ وقدره 200 دولار للعمال المسؤولين عن حفر القبر وتجهيزه، حتى إنهم فكروا في القيام بحملة تبرعات تنقذهم من الموقف، إلا أن الحملة تحتاج وقتاً لجمع المال، لكن الأسرة تمكنت من إقناع العمال بأن ينهوا عملية الدفن في المقبرة المخصصة للاجئين الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة قرب مطار بيروت الدولي، على أن يُدفع لهم المال في وقت لاحق. ويقول حميد "استلفت مبلغا وقدره 50 دولارا من عملي، ولكن هذا لم يكن كافياً، شعرت بالعجز وقتها".
وفي مخيم البرج الشمالي في صور بمحافظة الجنوب، يبدو الوضع أقل سوءاً، على صعيدي التكلفة المادية للدفن وأزمة امتلاء المقابر، "لكن الانفجار آت"، بحسب أحد أبناء المخيم أحمد دحوش، في ظل توفر 40 قبرا حاليًا كحد أقصى، و"امتلاء المقبرة ينذر بارتفاع تكاليف عملية الدفن قريباً، بخاصة أن الخيار البديل هو الدفن في مقبرة قريبة من المخيم تسمى مقبرة المعشوق التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولكن هذا سيتطلب كلفة نقل، وبالتالي سوف تتخطى الكلفة الإجمالية 100 دولار"، بحسب دحوش.
انتهاك حرمة الموتى
لا تنحصر تداعيات أزمة المقابر في استغلال الفلسطينيين من أجل دفع مبالغ كبيرة لا يمكنهم تحملها، إذ تمادى القائمون على على المدافن في تعدياتهم بحسب رئيس بلدية الغبيري، والذي يتهم القائمين على مقبرة بئر حسن، بارتكاب مخالفات وصلت إلى حدّ نبش القبور، وتبديل الأسماء ورمي رفات الأموات، ودفن دون أوراق رسمية للبنانيين وأجانب أي "لمن يدفع أكثر"، مؤكدا أن البلدية وثقت أمر نبش القبور القديمة التي لم يعد يزورها أحد بالتصوير عدة مرات.
وبحسب الخليل، "تقطن عائلة آل سلهب اللبنانية إلى جانب المقبرة، ووضع الأب يده عليها منذ عام 1978، وكانت وقتها عبارة عن مدفن صغير نظامي لا تتعدى مساحته 1500 متر، إلا أن آل سلهب وسعوه من خلال التعدي على الأملاك الخاصة، حتى أصبح مقبرة بمساحة 6 آلاف متر". ويؤكد الشيخ محمد السبع من المجلس الشيعي الأعلى أن البلدية أرسلت لهم شكوى لكن المجلس ليس جهة تنفيذية، "وفي حال وجود تعديات نحن واجبنا اللجوء إلى البلديات وليس العكس"، مضيفاً أن "العقار تابع قسم منه للبلدية وقسم للأوقاف، وهم لديهم السلطة الكبرى على المقبرة".
في حين يرد محمد سلهب، والذي يدير المقبرة ويتحكم فيها على الاتهامات حول التعديات ونبش القبور، بأنهم ليسوا متعدين ويقطنون في المنطقة منذ أكثر من 90 عاماً حيث وكّل صاحب الأرض قبل وفاته جده بها على حد زعمه، ومنذ ذلك الحين يتوارثون إدارتها، نافيا قيامهم بنبش أي قبور فيها".
ولتوثيق ما يحدث من اتجار واستغلال، ادّعت معدة التحقيق أنها تبحث عن قبر لدفن والدتها في مقبرة بئر حسن الأقرب من سكنها، وخلال رحلة البحث وصلت إلى أحد السماسرة (يحتفظ العربي الجديد باسمه)، والذي لديه علاقات مع القائمين على المدافن لمساعدتها في شراء قبر، ولدى لقائها بالسمسار بادر بالاتصال بسلهب، طالبا منه أن "يراعي الحالة المادية للزبونة"، ويخفض من سعر القبر، لكن الأسعار التي عرضاها على معدة التحقيق تراوحت بين 4500 إلى 5000 دولار مع الرخام والبلاط، ما دفعها إلى السؤال عن إمكانية الدفن في قبر قديم بعد نبشه، وما كان من السمسار إلا المبادرة لسؤال سلهب عن الأمر قائلا: "كيف فيك تزبط القبر"، فكان رده "العين حمرة علينا حاليا، البلدية رايحة جايي يوميا".
يصل سعر القبر خارج المخيمات إلى 5000 دولار
وعند الوصول إلى مقبرة بئر حسن، قام محمد سلهب بإرشاد معدة التحقيق إلى قبريْن جديديْن جاهزيْن، علماً أن المقبرة شبه ممتلئة، لكنها أعادت عليه طلبها بنبش قبر قديم لأنها لا تستطيع دفع المبلغ المطلوب لقبر جديد، ليأتي رده "بأن هذه القبور تابعة لأشخاص وقد يزورها أصحابها يوماً ما، حتى لو بعد حين"، رافضا الأمر، علماً بأن السمسار أكد أن آل سلهب كانوا ينبشون القبور القديمة في السابق قبل أن تزداد عليهم الرقابة.
وبالتواصل مع سمسار آخر، أعادت معدة التحقيق السيناريو ذاته بأنها تبحث عن قبر لوالدتها في بئر حسن، وأبلغها بأنه يستطيع تأمينه بمبلغ وقدره 3500 دولار مع البلاط والرخام، مؤكدا أنه يتواصل مع الشخص ذاته محمد سلهب، وحذر معدة التحقيق من الشراء من سلهب مباشرة حتى لا يبيعها بسعر زائد قائلا: "لا تتحدثي مع آل سلهب من دون وسيط، رح يسلخك بالسعر".
أين الجهات المسؤولة؟
يُحمّل هويدي الدولة اللبنانية والأونروا مسؤولية توسيع مساحة المخيمات وتخصيص قطعة أرض لدفن الموتى، معتبرا أن "هناك فرقا بين الدفن خارج وداخل المخيمات".
لكن الأونروا قالت لـ "العربي الجديد" بأن المنظمة "لا تتحمل مسؤولية إدارة شؤون المخيمات ومع ذلك فإنها تساهم في تحسين ظروفها، ويمكن أن تنفذ مشاريع البنية التحتية ذات الصلة بناءً على توفر التمويل المطلوب، مشيرة إلى أنها ساهمت في توسيع أماكن المقابر أو تأهيل بعضها".
وقدمت "العربي الجديد" طلباً إلى المديرية العامة للأوقاف الإسلامية للسؤال عن مسؤوليتها تجاه الأزمة كون غالبية اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان من المسلمين، لكنها رفضت الإجابة عن أي استفسار. وفي مقابلة هاتفية مع الشيخ محيي الدين بعيون، مسؤول الشؤون الدينية في المديرية العامة للأوقاف، قال إن "الفلسطينيين لديهم مقابر خاصة، وفي حال امتلأت، بإمكانهم الدفن في المقابر للبنانيين، وحتى المقابر المخصصة لأهل بيروت شبه ممتلئة، وفي نهاية المطاف الكل سيُدفن، لا نترك أحداً بلا دفن". مستدركا بالقول إن "لكل طائفة مقابرها الخاصة، والدولة أيضاً يجب أن تخصص من أملاكها في كل منطقة مقبرة لساكنيها".
ويمكن "حل اكتظاظ المقابر عبر تخصيص مدافن جديدة من أوقاف الطوائف أو من الأملاك العامة وفق القواعد الصحية المنصوص عنها في المرسوم الاشتراعي رقم 16 الصادر في 30 يونيو/حزيران 1932 في بابه الثامن حول إنشاء المقابر وإجراءات التسجيل لدى المراجع الرسمية وخصوصاً البلدية ووزارة الصحة" كما تقترح المحامية ديالا شحادة.
وإلى أن تتحرك الجهات المعنية، تبقى المبالغ التي تترتب على عملية الدفن تشكّل عائقاً أمام الفلسطينيين، كما حصل مع الخمسيني أحمد الحاج موسى، من مواليد مخيم البرج الشمالي، والذي لم يعرف كيف يتدبر تكاليف دفن والدته حين توفيت في 22 فبراير/شباط 2023، إذ سحب كل ما لديه في محفظة الادخار، ودفع مبلغاً قدره 4 ملايين ليرة لبنانية للقائمين على مقبرة المخيم، بحسب روايته لـ"العربي الجديد" قائلا: "أنا عاطل عن العمل منذ أشهر، وبالتالي فإن 10 ملايين ليرة، مبلغ كبير، واضطررتُ للجوء إلى شباب المخيم الخيرين حتى أنني استندنت تكاليف بيت العزاء أيضًا".