أدوية فقراء لبنان... تلاعب واستنسابية في علاج الأمراض المستعصية

بيروت

فاطمة حيدر

فاطمة حيدر
فاطمة حيدر
صحافية لبنانية
04 سبتمبر 2023
أدوية فقراء لبنان
+ الخط -

يكشف تحقيق "العربي الجديد" الاستقصائي عن تلاعب واستنسابية في توزيع الأدوية المستعصية والمدعومة من الدولة في لبنان، بينما يقترب الموت من المرضى الفقراء الذين لم تعد حقن الكورتيزون والمورفين قادرة على تسكين آلامهم.

- تعيش الأربعينية اللبنانية ليلى عياش (من بلدة حلبا مركز محافظة عكار شمال لبنان) على حقن "الكورتيزون" لتسكين أوجاعها منذ أن توقفت وزارة الصحة اللبنانية في بداية أبريل/نيسان 2022 عن تسليمها دواء "كادسيلا" (Kadcyla) الذي يندرج ضمن فئة "المدعوم" من الدولة، إذ تُقدر تكلفته بـ 6 آلاف يورو للعلبة، بحسب ما تقول عيّاش التي شُخصت حالتها بمرض سرطان الثدي في أبريل من عام 2021، إلا أن انقطاعها عن العلاج أدى إلى انتشار الخلايا السرطانية ووصولها إلى الكبد ومن ثم الرحم.

وبسبب ما حدث "أتممت 5 جلسات من العلاج الكيماوي فقط"، تضيف عياش: "أحياناً لا أستطيع تحمّل كلفة حقنة الكورتيزون التي يبلغ سعرها 35 دولاراً فيطردونني من الطوارئ في المستشفى، وأتردد شهريا على مستودع الكرنتينا للمعدات واللوازم الطبية التابع لوزارة الصحة، بحثا عن الدواء دون جدوى".

وتعد عياش واحدة من المرضى الذين تفاقمت حالتهم الصحية، بينما يستجدون علاجهم من مستودع الكرنتينا، والذي يقرّ وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض بوجود "فجوة في توزيعه للأدوية على المرضى"، ما ضاعف معاناتهم وفق ما يوثقه "العربي الجديد".

مواجهة في مبنى الكرنتينا

تتشابه حال عياش والخمسينية فادية شحيمي المصابة بحساسية الأرتكاريا Urticaria المزمنة (طفح جلدي قد تؤدي تبعاته إلى فقدان الوعي وصعوبة التنفس) منذ 3 سنوات، وتحتاج إلى حقنتين من دواء زولير (XOLAIR) شهرياً وكلفتهما 300 دولار، وكانت توفره الوزارة لها لكن منذ عام لم تحصل عليه، لكن شحيمي من خلال سؤالها الملحّ عن الدواء وسبل الحصول عليه علمت من مرضى آخرين أنهم استلموه من الكرنتينا، ما خلق لديها علامات استفهام حول آلية توزيع الدواء على المرضى.

%20 من المرضى يحصلون على الدواء المدعوم من وزارة الصحة

ورافقت معدة التحقيق شحيمي في زيارة إلى مبنى الكرنتينا في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ووقفت في طابور السائلين عن أدويتهم، والذين لا يجدون جوابا غير كلمة "مقطوع" المتكررة على لسان المسؤول عن التوزيع طوني الخوري، وعندما سألت شحيمي الموظف عن دواء زولير أجابها بأنه لم يستلمه أي مريض منذ أكثر من 6 أشهر، وكذلك الحال بالنسبة لدواء كادسيلا الذي "لم يصل منذ أشهر أيضا".

لكن شحيمي واجهته بأنها على تواصل مع مرضى تسلم أحدهم الدواء الذي يحمل شعار وزارة الصحة (أي مدعوم) منذ وقت قريب، لينتفض الموظف متجها نحو الصيدلية حيث تخزن الأدوية للاستفسار، لكن جاء الرد بالنفي، فما كان من شحيمي التي بدا على وجهها اليأس إلا أن دونت اسمها ورقمها من جديد على ورقة شبة بالية ومهترئة في يد الموظف، على أن تنتظر اتصالا منه في حال توفر الدواء المطلوب، قائلا لها: "تُعلمنا الوزارة بوصول الأدوية بشكل فجائي".

الصورة
فادية
إدراج أسماء المرضى على قوائم الانتظار أملا في الحصول على دوائهم (العربي الجديد)

وللتثبت من دقة رد الموظف ومدى توفر الدواء تتبع "العربي الجديد" نوعي الدواء كادسيلا وزولير، ضمن قوائم الأدوية المنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة الصحة حتى آخر ستة أشهر من عام 2022، إذ تظهر ضمن خانة مدعوم (subsidy) نسبة الدعم المالي لكل دواء، وفي المقابل وضعت نسبة الدعم تحت الأدوية غير المدعومة (Non Subsidized) صفرا.

وظهر نوعا الدواء المرصودان في قوائم الوزارة ضمن خانة مدعوم بتاريخ 20 يونيو/حزيران، و15 سبتمبر/أيلول، و22 أغسطس/ آب، و24 أكتوبر/تشرين الأول، من العام الماضي، بينما ظهر دواء كادسيلا في قائمة 12 ديسمبر/كانون الأول لعام 2022 ضمن خانة الأدوية غير المدعومة، وسعر عبوة 100 مليغرام 68 مليون ليرة (الدولار يعادل مئة ألف ليرة) و109 ملايين ليرة لكمية 160 مليغرام المباع للمرضى. وبذلك، توفر نوعا الدواء 4 مرات في قوائم الوزارة ضمن الأدوية المدعومة، ما يثبت عدم صحة ما قاله الموظف في الكرنتينا حول عدم توفرها.

الصورة
قوائم
توصل"العربي الجديد" إلى توفر نوعي دواء ضمن قوائم الأدوية المدعومة من وزارة الصحة، بينما أُبلغ المرضى أنهما غير متوفرين (العربي الجديد)

ما سبق تؤكده خطوة أخرى للتحقق من دقة الردود على المرضى المتوافدين على الكرنتنيا، إذ كشفت نقابة صيادلة لبنان لـ"العربي الجديد"، استيراد 1330 علبة من دواء كادسيلا 160 مليغراما عام 2022، و505 علب من عيار 100 مليغرام، ووصل الدواء آخر مرة إلى لبنان في 19 ديسمبر من العام الماضي. كما تم استيراد 3070 علبة من دواء زولير عام 2022، ووصل آخر مرة في 13 سبتمبر 2022، كما يؤكد النقيب جو سلوم.

وبالتالي فإن الاستنسابية في توزيع الأدوية تعود، والحديث لهاني نصار رئيس جمعية بربارة نصار لمرضى السرطان، إلى أن عدد المتوفر منها أقل من عدد المرضى بكثير، ونتيجة لذلك، "يحاول المريض الحصول على الدواء عن طريق معارف، والبعض لا يجد من بد سوى رشوة موظف ممن يتلاعبون بالأدوية المدعومة للمتاجرة بها في السوق السوداء". وهو ما ينفيه خوري مؤكدا على أن "كل المرضى يحصلون على الدواء بطريقة عادلة حين يصل دورهم"، لكن تجارب المرضى التي يوثقها "العربي الجديد" تكشف غير ذلك، ومنهم الثلاثينية فادية مكاوي، التي تخضع لجلسات علاج بالكيماوي منذ أغسطس 2021، وحصلت على  دواءين من الوزارة من أصل 5 أدوية تحتاجها، وهما كاربوبلاتين carboplatin وتاكسول taxol المضادين للأورام، أما الأدوية التي لم تحصل عليه فهي دواء بيرجيتا perjita وثمنه 2600 دولار، وهرسبتين Herceptin ثمنه يتراوح بين 1200و1400 دولار، والدواء الأهم هو كادسيلا، إذ تحتاج إلى 14 جلسة منه لاستكمال علاجها،  لكنها حصلت عليه مرتين فقط قبل أبريل 2022.

ويفسر رئيس لجنة الصحة العامة والعمل والشؤون الاجتماعية النائب بلال عبد الله ما يجري بشح الاعتمادات المرصودة من قبل مصرف لبنان للأدوية، وأنها ليست كافية، لذلك كمياتها لا تكفي جميع المرضى، إذ تبلغ الموازنة الشهرية للأدوية المدعومة 35 مليون دولار بحسب الوزير الأبيض.

وسعت اللجنة إلى ممارسة ضغوط على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عام 2022 لرفع المبلغ إلى 40 مليون دولار، علماً بأن السوق اللبناني يحتاج إلى مبلغ يتراوح بين 50 و55 مليون دولار لاستيراد أدوية الأمراض المستعصية والمزمنة، كما يؤكد عبد الله، وما زاد الطين بلة، تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان المدين لشركات الأدوية الخارجية بمبلغ 400 مليون دولار، ونتيجة ذلك توقف المورد عن تلبية احتياجاتنا.

%20 من المرضى فقط حصلوا على الدواء المدعوم

يكشف وزير الصحة لـ"العربي الجديد" أن الفجوة في توزيع الأدوية، جعلت الأدوية المدعومة تصل إلى 20% فقط من المرضى، لكنها سوف تختفي مع النظام المعلوماتي الإلكتروني Meditrack الذي استحدث لتتبّع سير الأدوية المدعومة للأمراض السرطانية والمستعصية في المؤسسات الصحية والصيدلانية، مشيرا إلى أن نسبة الحاصلين على الأدوية المدعومة منذ بدء العمل به وصلت إلى حد 70%، بعدما أطلقت المرحلة التجريبية الأولى في 19 يناير/كانون الثاني 2022، وبفضل النظام ستنتهي سيطرة بعض المستشفيات على الكميات الأكبر من الدواء، خاصة أن الأدوية المخزنة كانت تسرّب إلى "مرضى غير لبنانيين، والبعض يستفيدون من أكثر من جهة ضامنة ويحصلون على أكثر من حاجتهم، وأُخذت أدوية مدعومة لمرضى مهاجرين أو متوفين"، كما قال الوزير الأبيض في ندوة صحافية عقدت في 10 يناير/كانون الثاني عام 2023.

ما سبق، يؤكده رئيس لجنة الصحة النائب عبد الله في إفادته لـ "العربي الجديد"، قائلا إن المستفيدين من تسريب الأدوية المدعومة هم "أقارب مرضى موجودون في الخارج، وبعض المستشفيات التي تريد تقديم خدمات إلى مرضاها غير اللبنانيين"، عدا عن "أدوية تهرب لسورية".

أين تختفي الأدوية المدعومة؟

تكشف أوراق ملف التحقيق رقم 67/2022 إجابة السؤال السابق، إذ ادّعى النائب العام الاستئنافي في البقاع، القاضي منيف بركات بتاريخ 3 فبراير/شباط عام 2022 عند قاضي التحقيق الأول في البقاع أماني سلامة على 34 شركة أدوية وأصحاب عدد من الصيدليات (يحتفظ العربي الجديد بأسمائهم)، ونص الادعاء الذي حصلت عليه "العربي الجديد" على أنه: "في الأراضي اللبنانية، البقاع وبيروت وجبل لبنان ومناطق أخرى، أقدمت شركات أدوية بالاشتراك والتدخل على احتكار أصناف الدواء المدعوم من الدولة اللبنانية وغير المدعوم، وعدم تسليم الصيدليات والمستودعات في البقاع بعض أصناف الدواء وحليب الأطفال، أو تسليم الأدوية إلى صيدليات بشكل متفاوت أو تسليم كميات كبيرة من الدواء والحليب إلى بعض الصيدليات دون غيرها، ما خلق بلبلة وفقدان بعض أصناف الدواء، وخاصة المخصصة للأمراض المزمنة والمستعصية، وبالتالي ارتفاع الأسعار وجني أرباح مرتفعة والاستيلاء على أموال الدولة اللبنانية احتيالا، وارتكاب جرم تبييض الأموال، ومخالفة الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء لتوزيع الدواء".

34 شركة أدوية وأصحاب عدد من الصيدليات احتكروا أدوية مدعومة

ويؤكد القاضي بركات لـ"العربي الجديد" أن "ما أقدمت عليه شركات الأدوية والصيدليات المدعى عليها يعدّ جناية، وفي حال ثبت الحكم عليهم، فإن عقوبتهم بحسب القوانين الناظمة، قد تصل إلى السجن لمدة 15 عاما"، مشيرا إلى أنه "قبل الادعاء، جمعت معلومات على مدى ستة أشهر، وبناء عليها، تعاونت مع فرع المعلومات في زحلة لتنفيذ مداهمات واسعة على المخازن والمستودعات التابعة للشركات ووثقنا حصول الاحتكار، ثم أجبرنا المحتكرين على تسليم الأدوية والحليب الذي وُجد في المخازن ليتم بيعها".

وما زالت القضية مستمرة، بحسب القاضية أماني سلامة موضحة لـ "العربي الجديد"، أن التحقيقات توقفت لفترة زمنية بسبب الإضرابات من قبل الموظفين والمحامين والاعتكاف القضائي، ثم قدم المدعى عليهم مذكرات بدفوع شكلية قبل الإضراب، وصدر قرار رد الدفوع الشكلية من قِبلها، والذي استؤنف من المدعى عليهم أمام الهيئة الاتهامية، وهي بصدد إصدار قرارها بالموضوع، وبالتالي فإن الملف موجود حاليا لدى الهيئة الاتهامية.

اللجوء للسوق السوداء

اضطرت شحيمي إلى البحث عن خيارات أخرى لتأمين دوائها عندما فقدت الأمل بالحصول عليه عبر الكرنتينا، فلجأت إلى البحث عنه في السوق السوداء، إذ ابتاعته من تركيا عبر تجار تهريب كما تقول، وهؤلاء يُدخلون إلى لبنان أدوية غير مضمونة، حتى أنها تنبهت في إحدى المرات إلى أن صلاحية الدواء المعروض عليها أوشكت على الانتهاء، كما تمكن أحد معارفها من شراء الدواء لها من الضاحية، وفق ما تروي لـ"العربي الجديد".

الصورة
سوق سوداء
يستغل تجار في السوق السوداء حاجة المرضى للدواء لبيعه بأسعار مرتفعة (العربي الجديد)

وتواصلت معدة التحقيق مع ثلاثة من بائعي الأدوية في السوق السوداء وصلت لهم عبر مرضى سبق وأن اضطروا للتعامل معهم، ويتنافس هؤلاء في تقديم أسعار أفضل للأدوية المرادة من أجل إقناع المريض بالشراء، إذ أجاب أحد الباعة الذي تواصلت معه عبر تطبيق واتس أب بأن سعر كادسيلا من عيار 100 غرام يصل إلى 875 دولارا، أما عيار 160 غراما فيساوي 1125 دولارا، بينما أرسل لها بائع ثان صورة للأدوية محفوظة في ثلاجة بيته لكي "يطمئن الزبونة بأنها آمنة ومحفوظة بشكل جيد"، وبعد نقاش معه حول السعر، قال إنه يبيع دواء كادسيلا (100 غرام) بـ500 دولار للعلبة.

ووسط هذه الأزمة، ووعود وزير الصحة منذ مطلع العام بأن "كل أدوية الأمراض السرطانية والمزمنة ستكون متوفرة"، ما زال المرضى يطلقون صرخاتهم لتأمين العلاج، ومنهم من يرى أن "الموت صار قريبا"، كما تقول عياش وهي تتألم وتطالب بتأمين جلسة واحدة من العلاج الكيماوي على الأقل، للصمود مدة أطول من الزمن.

ذات صلة

الصورة
أكثر من مليون شخص نزحوا من مناطق الحرب (حسين بيضون/العربي الجديد)

اقتصاد

مع نزوح أكثر من مليون شخص في لبنان إلى عدد من المناطق الآمنة بسبب تصاعد العدوان الإسرائيلي، ظهرت على السطح فئة من تجار الأزمات الذين استغلوا أوضاع النازحين.
الصورة
تشتت العائلات جراء القصف (أنور عمرو/ فرانس برس)

مجتمع

حتى لو وجد النازحون في البقاع مراكز إيواء آمنة نسبياً حتى اللحظة، إلا أنهم يواجهون فوضى ونقصاً في بعض الأساسيات، خصوصاً الأدوية، ويخشون البرد
الصورة
جانب من تعزيزات الاحتلال العسكرية قرب الحدود اللبنانية، 1 نوفمبر 2023 (فرانس برس)

سياسة

يواصل جيش الاحتلال حشد مزيد من الدبابات والقوات البرية على الشريط الحدودي، تزامناً مع تهديدات متكررة من قادته بشن عملية برية في لبنان
الصورة
خلال إعداد دبس العنب (العربي الجديد)

مجتمع

يعد دبس العنب، الذي تعرف منطقة راشيا الوادي شرقي لبنان بإنتاجه، قيمة غذائية وصحية لخلوه من المواد الحافظة، وإضفائه طعماً حلواً على المأكولات.