كل ما في الحياة السياسية في لبنان يبدو في الأيام الأخيرة غير مألوف. لا أعياد الاستقلال تشبه سابقاتها، ولا الحياة السياسية التي يحاول الناس في الطرقات تصويب مسارها تشبه سابقاتها، وسط إصرار واضح من السلطة على إعادة إنتاج ما كان سائداً بوجوه جديدة. في عيد الاستقلال الـ76، اليوم الجمعة، بدا للمرة الأولى أن الحدث يكمن في استعادة الشعب للذكرى، لحساب استقلال جديد يريدونه تحت شعار "استقلالنا عن استغلالكم"، ولسان الحال في الشارع أنّ لا استقلال ناجزاً من دون بناء وطن، وهي المهمة التي يقولون إن الطبقة السياسية الطائفية فشلت فيها، بفعل مشاريع التقسيم والمحاصصة فيما بين أركانها، وإبقاء الشعب أسير الطوائف. كل ما احتفلت به الطبقة السياسية هذا العام بدا باهتاً أمام مشهد الساحات، من الشمال إلى الجنوب وراشيا في البقاع الغربي، حيث قلعة الاستقلال، وكذلك أمام مشهد التنوع اللبناني الذي تظهّر للمرة الأولى ليس وفق مقولة الطوائف الـ18، بل وفق تنوعهم المناطقي والمهني والاجتماعي حصراً، برز في العرض المدني للاستقلال، الذي شكل إعادة تصويب البوصلة الاجتماعية ــ السياسية التي كانت سائدة.
وبدأت مراسم الاستقلال التي تقيمها الدولة سنوياً، بخطاب الاستقلال لرئيس الجمهورية ميشال عون، مساء أمس الخميس. لم تتضمن كلمته جديداً، ولا حتى التزاماً بالدستور اللبناني، ودعوة إلى استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس حكومة جديد وبالتالي تشكيل حكومة جديدة. لا يزال عون متمسكاً بالتوافق حول الحكومة قبل تكليف رئيس جديد لها، وهو ما يعده الشارع ضرباً للدستور. لم يقدم رئيس الجمهورية هدية في عيد الاستقلال، كان البعض يمنّي النفس بها، لو كانت على شكل حكومة إنقاذية.
في الساعات الماضية ضغط "التيار الوطني الحر" لعله ينجح في الإفراج عن الحكومة في عيد الاستقلال، لكن المحاولة فشلت. لا الحريري قدّم تنازلات في شأن صيغة حكومة التكنوقراط التي يريدها للقبول بمهمة التأليف، ولا الثلاثي "التيار الوطني الحر" – حركة "أمل" – "حزب الله"، قدّم تنازلات في سياق صيغة حكومة تكنوسياسية. كل المخارج أمام هذه الأزمة تبدو مسدودة. فكرة رئيس الحكومة المنتمي إلى فريق "8 آذار" (التيار الوطني الحر وحزب الله وأمل) لا تزال مستبعدة خوفاً من رد فعل عربي ودولي، قد ينهي ما بقي اقتصادياً في لبنان، فيما سدّ الانسحاب العلني لمحمد الصفدي، والضمني لتمام سلام ونجيب ميقاتي، أفق إمكانية طرح اسم بديل من داخل الطبقة السياسية، لرئاسة الحكومة.
وبرز سجال بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، إذ اعتبر وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال، المحسوب على "الوطني الحرّ" الياس بو صعب، أن "لا شيء يؤكد أن الحريري لم يقبل بتكليفه ولا شيء يجزم قبوله"، وأضاف عقب العرض العسكري، أنه "عندما يكون هناك قرار واضح، يبدأ تشكيل الحكومة، ونأمل أن تكون الحكومة تشبه المطالب الشعبية وأن تكون قادرة على إنقاذ الوضع الاقتصادي". كلام بو صعب لاقى رداً عنيفاً من تيار المستقبل، الذي قال مصدر قيادي فيه إن "ما يؤخر التكليف والتأليف هو التمادي في إنكار المتغيرات التي استجدت على الساحة الوطنية، أما موقف الرئيس سعد الحريري فمعروف وتعلمه كافة القيادات ولا يحتاج لتفسير أو تأويل، ويبدو أن الوزير بو صعب خارج دائرة المعلومات لكن يمكنه الاطلاع على حقيقة الموقف والعودة إلى رئيس تياره (وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل)".
فعلياً يقول العارفون بما طرح في الأروقة السياسية أن نواف سلام أفضل من طرح على صعيد الأسماء ومن الممكن أن يشكل نقطة تلاقٍ، خصوصاً أنه خاض معارك أساسية في الأمم المتحدة إلى جانب القضايا العربية وكذلك قضايا لبنان خصوصاً في فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2006، إلا أن التحفظ الأساسي رفعه "حزب الله"، الذي يبدو أنه ينظر إليه بعين الريبة نتيجة علاقاته الدولية هذه التي تبدأ من لاهاي ولا تنتهي في نيويورك. بالتالي يعتبر وصول سلام إلى رئاسة الحكومة انتصاراً لمحور دولي ــ إقليمي على حساب محور دولي ــ إقليمي آخر.
وبعد الفيتو الذي وضعه "حزب الله" على اسم سلام بات المشهد السياسي في لبنان أسير اللعبة التقليدية فيه، التي عادة ما تبقي البلاد في فراغ لأشهر طويلة، بانتظار توافق الأحزاب الممثلة للطوائف على مخرج ما. وهو ما يتوقع أكثر من مصدر مطلع أن يتكرر اليوم على الرغم من ضغط الشارع، لكن في المقابل ثمة مخاوف جدية من تطور الأمور وحركة احتجاج الشارع في حال لم تلبِّ الطبقة السياسية مطلب الشارع في تأليف الحكومة سريعاً.
وعلى الرغم من إدراك الجميع لخطورة الوضع وأن سيناريو البقاء في فراغ حكومي لأشهر طويلة لم يقبله الشارع هذه المرة، إلا أن حسابات الأطراف مختلفة، وخصوصاً أن الحريري يعتبر نفسه يقدم خطاباً أكثر قرباً من مطالب الشارع. بالتالي إن الأطراف التي تصر على حكومة تكنوسياسية عليها أن تدرك أن هذا الخيار ساقط تماماً مثل خيار محمد الصفدي الذي رفضه الشارع، في المقابل يبدو الثلاثي في "8 آذار" متمسكا بما يعتبره توازناً سياسياً فرضته نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة (جرت في عام 2018)، على الرغم من تخوف البعض من تحرك الاحتجاجات مجدداً باتجاه العهد بوصفه الجهة المسؤولة عن احترام وتطبيق الدستور، وبوصفه ممتنعاً حتى الآن عن دعوة النواب إلى الاستشارات تحت حجة التأليف قبل التكليف.