بينما كان وسط بيروت يعجّ
بالمتظاهرين الرافضين لجلسة البرلمان، وجدول أعمالها، كانت
الوكالة الوطنية للإعلام في مكانٍ آخر، بعيدةً كلّ البعد عن التغطية الحقيقيّة. سبق المتظاهرون، يوم الثلاثاء، بدء الوكالة نشر أخبارها الصباحية، بساعتين. كانوا منذ السادسة صباحاً في الشوارع، يغلقونها بحاجز بشري يمنع دخول النواب... وهكذا كان. لكن الوكالة لم تقل كلّ ذلك. لم تنشر صوراً للمتظاهرين وكثافتهم (لا تنشر صوراً حديثة عادةً) ولم تذكر مطالبهم أو الشعارات التي يرفعونها في خبرٍ حتى. كتبت عن فتح المصارف أبوابها في كلّ منطقةٍ لبنانيّة خبراً، وتحدّثت باسم النواب، فأعلنت عن الواصلين منهم والمقاطعين، بل والنافين لما انتشر عنهم من أخبار.
أين المتظاهرون في بيروت؟ يظهرون في بضعة أخبارٍ قليلة على الوكالة، بينهما خبران تحريضيان، بعنوان "متظاهرون رشقوا سيارات رباعية الدفع بالحجارة في أسواق بيروت" وآخر بعنوان "عسكريون متقاعدون يشاركون في قطع الطريق على النواب ومحتجون حاولوا اختراق حاجز أمني قرب المجلس"، فيما أشارت إلى أنّ متظاهرين منعوا النائب جورج عطالله من الدخول إلى المجلس. أخبارٌ أخرى نشرتها الوكالة أيضاً عن المتظاهرين في المناطق، لكنّها ركّزت على طرابلس وقلّلت التغطية من مناطق أخرى.
لكنّ تغطية الوكالة يوم الثلاثاء الماضي لم تكن بغريبةٍ عن نهجٍ بدأ يظهر على موقعها الإلكتروني في الآونة الأخيرة، وارتفعت وتيرته بعد إقالة مديرة الوكالة السابقة لور سليمان، وتعيين الكاتب زياد حرفوش (المحسوب على التيار الوطني الحر) بدلاً منها، نتيجة تسوية سياسية بين التيار و"المستقبل" بدأ الجدل حولها عام 2017.
يتخوّف اللبنانيون من تحويل الوكالة الوطنية للإعلام، وهي وكالة الأنباء الرسمية الوحيدة، إلى ما يُشبه "سانا" (وكالة الأنباء السورية)، لتنطق باسم السلطة فقط وتحرّض على المواطنين. لكنّ الحقيقة أنّ تغطية الوكالة دائماً ما كانت منحازةً إلى السياسيين، إذ إنّها تنشر بيانات مطوّلة لهم، وقليلاً ما تنشر أخباراً ميدانية أبطالها مواطنون فقط. هذا عدا عن أنّ ما تشهده البلاد حالياً من انتفاضة شعبية خلق أخباراً لم تكن في حسبان الخط التحريري لوسائل الإعلام العاملة في البلاد، لكون مواطنين مدنيين غير حزبيين هم الخبر.
ولعلّ ما يزيد هذه المخاوف، انتشار أكثر من خبر كاذب ومفبرك على الوكالة خلال الأيام الماضية، ما استدعى أكثر من نفي. وآخر الأخبار أنّ النائب العام التمييزي غسان عويدات أعطى الإذن بملاحقة المدير العام للموارد المائية والكهربائية فادي قمير، وهو ما نفاه عويدات لاحقاً.
وقبل ذلك بأيام، تحديداً مع
انطلاق التظاهرات الطلابية التي أحيت الانتفاضة اللبنانية، نشرت الوكالة خبراً يقول إنّ "منظمات دولية أبلغت السلطات اللبنانية قلقها من مشاركة أولاد في مسيرات من دون مرافقة ذويهم"، من دون تسمية هذه المنظمات أو متى حصل هذا التبليغ ولماذا. واعتبر اللبنانيون الخبر حينها بمثابة إعلانٍ من الوكالة بالتخلّي عن المواطنين والوقوف إلى جانب السلطة، لاعتبارهم أنّه مفبرك وتحريضي.
قد يقول مدافعٌ عن الوكالة الرسميّة إنّها تعمل تحت الضغط وفق أجندات سياسية، أو أنّ مراسليها وقعوا في خطأ. لكنّ تزامن كلّ هذه الأخطاء (من دون اعتذارات) مع
حملة إعلاميّة وإلكترونيّة تستهدف الناشطين والصحافيين والمتظاهرين وتحرّض عليهم، يجعل من الوكالة شريكةً في هذا الفعل، ويؤكّد رسوبها (إلى جانب تلفزيون لبنان الذي لم ينقل الاحتجاجات إلا ما ندر) في امتحان المهنية.