براك: فشل المفاوضات مع سورية عزز خيار الانسحاب أحادي الجانب من لبنان

04 مايو 2020
صدر القرار بالانسحاب بين ليلتي 23 و24 مايو 2000(Getty)
+ الخط -
أدلى رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي السابق، إيهود براك، في مقابلة مع المؤرخ العسكري أوري ميلشتطاين، نشر الجزء الأول منها في صحيفة "معاريف" الجمعة الماضي، بمواقف يحاول أن يرسخها كأسباب وعوامل للانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، في مثل هذه الأيام من العام 2000، وربط ذلك بفشل المفاوضات بين إسرائيل وسورية في شيبردز تاون، وإن كان أقر بأن سقوط "ثلاثة مواقع، كان جيش الاحتلال سلمها لجيش أنطوان لحد (العميل لإسرائيل)، كان الشرارة الحدث الذي قرر ساعة الصفر". براك، الذي أبرز في مقابلته كونه هو من وضع صيغة "وديعة رابين"، حاول تحميل سورية مسؤولية فشل المفاوضات، واعتبار جولة المفاوضات السورية الإسرائيلية في شيبردز تاون، في يناير/كانون الثاني 2000، نقطة تحوّل رجحت لديه خيار الاتجاه نحو انسحاب أحادي الجانب من لبنان. وحاول براك في روايته نسب الموقف السوري في شيبردز تاون، إلى أن حافظ الأسد، بعد أن تراجعت حالته الصحية، لم يعد مهتماً بمسار المفاوضات بقدر ما كان يهمه في المقام الأول مشروع التوريث ونقل الحكم لنجله بشار. لكن هذه الصياغات يفضح عدم دقتها وانعدام صدقيتها، وزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع في كتاب مذكراته "الرواية المفقودة" (في الفصل الثامن عشر من الكتاب الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2015).

وادعى براك في المقابلة أنه منذ توليه رئاسة الحكومة في يوليو/تموز 1999، قرر التوجه نحو إنهاء الوجود الإسرائيلي في لبنان حتى يوليو 2000، مع محاولة ربط ذلك بمفاوضات مع سورية ولبنان إذا أمكن، على الرغم من تحفظ ومعارضة غالبية القيادة العسكرية في دولة الاحتلال بمن فيهم رئيس الأركان في ذلك الوقت، الجنرال شاؤول موفاز. وبحسب براك "بدأ يتضح تدريجياً مع حلول العام المقبل (2000) أن التسوية مع سورية لن تتحقق، ويبدو أننا سنضطر للخروج من دون اتفاق، وإذا أمكن مع تغطية قرار مجلس الأمن. وكان التحدي في تنفيذ هذه العملية، هو أنه في حال اضطررنا للانسحاب من جانب واحد، فإن هناك أهمية عليا للتنفيذ بشكل مفاجئ كلياً، سواء لجهة فرص نجاح الانسحاب، أم لجهة منع وقوع خسائر. وبالفعل لم يكن ممكناً أن نعرف ما إذا كنا سننجح بالتوصل إلى تسوية".

ووفق براك "لطالما كانت هناك مفاوضات (ربما يقصد مفاوضات بلير هاوس) لم يكن صحيحاً أن نعلن على الملأ أننا سنخرج (من لبنان) حتى بلا اتفاق. أولاً، لأن ذلك سيسمح لحزب الله والسوريين بمحاولة إحباط العملية، وثانياً لأن ذلك من شأنه أن يُفشِل المفاوضات، ومن جهة أخرى على الجيش أن يستعد لكل الاحتمالات، بما في ذلك الانسحاب بلا اتفاقية". وأقر بأن رئيس أركان الجيش في حينها، شاؤول موفاز، أصدر في أغسطس/آب 1999 تعليمات للاستعداد للخيارين، وأنه أطلق على الخطة اسم "أفق جديد"، على فرض أن يتم التنفيذ في يوليو 2000 (بما يتلاءم مع دعاية براك الانتخابية بأنه سينسحب من لبنان خلال عام من تشكيل الحكومة برئاسته). وادعى براك أنه أوضح لموفاز أنه يبذل كل جهد للتوصل إلى اتفاق بشأن الانسحاب، وأن هذه المحاولة الأخيرة تمت عملياً خلال محادثات شيبردز تاون.

لكنه ادعى في المقابلة أنه كان الطرف الذي أصر على الحد الأقصى من السرية، وإجراء جولة المفاوضات مع سورية في شيبردز تاون، عبر مفاوضات مباشرة أولاً، وبعيداً عن وسائل الإعلام، كعبرة من فشل تجربة حكومة إسحاق رابين، وفشل بنيامين نتنياهو عبر الوسيط اليهودي الأميركي رون لاودر. كما ادعى في المقابلة أنه "إذا تسرب ماذا يتم بحثه بينما المفاوضات جارية، ستفشل المفاوضات وتتوقف. فقد كان حافظ الأسد في مرحلة متقدمة من مرض اللوكيميا (سرطان الدم)، وبادر الأميركيون لعقد جلسة المفاوضات مع وزير الخارجية فاروق الشرع". ويوحي هذا الوصف بأن جدول المفاوضات لم يكن محدداً مسبقاً، خلافاً لما يوضحه الشرع في كتابه في الصفحات 409 -435 بشأن الاتفاق المسبق على تنفيذ وديعة رابين، وبحث ترسيم الحدود النهائية وفقاً لحدود ما قبل الرابع من يونيو/حزيران 1967، ومماطلة الجانب الإسرائيلي خلال المفاوضات في المشاركة بلجنة الحدود، وأن مصير المفاوضات في شيبردز تاون قد حسم في اللحظة التي نشرت فيها كل من صحيفة "هآرتس"، عبر الصحافي عكيفا إلدار، وصحيفة "الحياة" اللندنية، تفاصيل عن المفاوضات وعما سيقدمه السوريون فيها.

وأصر براك، في المقابلة، على أن النشر في صحيفة "هآرتس" أفشل مواصلة العملية كلها، وهو اليوم الذي "أدركنا فيه أننا سنضطر للانسحاب من لبنان بلا اتفاق". بينما الشرع أشار إلى أن الحديث هو عن وثيقة أميركية إسرائيلية مشتركة عممها الرئيس السابق بيل كلينتون، وأنه لا شك لديه في ذلك، مضيفاً في الصفحة 428 من كتابه: "من هو الأميركي الذي يجرؤ على توزيع وثيقة تتعلق بمستقبل المنطقة من دون إطلاع إسرائيل عليها؟". وبحسب براك فإنه منذ السابع من فبراير/شباط، بعد فشل محادثات شيبردز تاون، وفشل لقاء الأسد-كلينتون في جنيف، أوعز لموفاز ببدء الاستعدادات العينية لتنفيذ الانسحاب تحت سرية مطلقة، على أن يتم تحت غطاء تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425، حتى قبل لقاء كلينتون-الأسد في 26 مارس/آذار.

وحاول براك الادعاء بأن الأسد في ذلك اللقاء، وتلك الفترة كان "مركّزاً بالأساس حول مسألة التوريث ونقل الحكم، بعد أن كان المرض قد تقدم كثيراً، وأثر على قدراته الذهنية". وأقر بأن الأسد طلب أن "تتاح له إمكانية أن يغمر قدميه في مياه بحيرة طبريا باعتبارها أراضي سورية، وأن كل ما أراد الأسد أن يعرفه هو هل سأحصل على أرضي؟، هذا كل ما أريد معرفته"، وأن الأسد رفض حتى الاطلاع على الخرائط التي كانت مع كلينتون.

لقاء الأسد-كلينتون حدّد، بحسب براك، نهاية "الخيار السوري" (التسوية مع سورية تشمل لبنان أيضاً)، ومنذ ذلك الوقت انصب الجهد الإسرائيلي على توفير تغطية من الأمم المتحدة للانسحاب باعتباره تطبيقاً للقرار 425 واختيار الوقت المناسب بسرية تامة. وأشار براك إلى بدء انهيار "جيش أنطوان لحد" في مايو/أيار 2000، حتى قبل اتخاذ القرار بالانسحاب من لبنان وفق تغطية دولية من مجلس الأمن لتقييد حرية الحركة لـ"حزب الله" بعد الانسحاب. وكان واضحاً أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن لن يمنحا هذه الشرعية من دون الانسحاب للحدود الدولية ومن دون تفكيك "جيش لبنان الجنوبي" (جيش لحد). وتم بفعل العلاقات المتشابكة بين جيش الاحتلال و"جيش لحد" تحديد هيئة لتنسيق عمليات تفكيك "جيش لبنان الجنوبي" وترتيب الاستعدادات اللوجستية، بما في ذلك تحديد عدد العناصر من هذا "الجيش" الذين سينتقلون إلى إسرائيل، بعد فشل محاولات الحصول على عفو لبناني واسع لـ"جنود لحد" من الدولة اللبنانية.

استمرت الاستعدادات الإسرائيلية طيلة شهري إبريل/نيسان ومطلع مايو/أيار، من دون تحديد موعد لبدء الانسحاب، إلى أن تم نقل موقعين من الجيش الإسرائيلي "طيبة وروتم" تحت قيادة "جيش لحد". لكن في 18 مايو وصل طلب من قيادة المنطقة الشمالية بتبكير موعد الانسحاب للأيام القريبة. وفي 20 مايو ترك رجال لحد موقع القنطرة (مرجعيون على الحدود اللبنانية الفلسطينية). غداة ذلك اليوم، الأحد 21 مايو، جرت في قرية القنطرة مراسم تشييع جنازة، انضمت إليها مسيرة حاشدة من قرية الغندورية (جنوب لبنان) وراء "الحزام الأمني"، وفيها مسلحون من "حزب الله". وتبين لاحقاً، بعد الجنازة، أن موقع "جيش لبنان الجنوبي" في قرية الطيبة خالٍ، وربما عرفوا ذلك من قبل، فدخلوا إليه. وخلال يوم سيطر عليه رجال "حزب الله" ورفعوا عليه أعلامهم. وبدأ انهيار اللواء الغربي من "جيش لحد".

ووفقاً لرواية براك، فإن الانهيار السريع لمليشيات أنطوان لحد فاجأ كل القادة العسكريين في الجيش، من قائد المنطقة الشمالية وحتى رئيس الأركان. وفي 22 مايو، وفقاً للإحاطات التي استمع إليها براك، كان واضحاً بحسبه أنه يجب الانسحاب فوراً، وإذا أمكن الليلة وليس بعد ثلاثة أسابيع. لم يبق بعد ذلك، بحسب رواية براك، وعلى ضوء موقف قيادات الجيش والقوات الإسرائيلية في لبنان، إلا إصدار قرار وموافقة المجلس السياسي الأمني المصغر، وإصدار الأمر بالانسحاب. وفي تلك الليلة حصل براك على موافقة المجلس السياسي الأمني المصغر ليصدر القرار نهائياً بالانسحاب بين ليلتي 23 و24 مايو.

المساهمون