لأسباب تاريخية وجغرافية وثقافية، ظلّ الغموض يلفّ مناطق من جزيرة العرب. يلتقط البعض القليل من أخبارها عبر الرحّالة الغربيين، أو من شذرات قليلة من الكتابات التاريخية المحدودة التي تتناول أحداثها السياسية الكبرى.
المفارقة هي تناول تاريخ هذه المناطق القديم، أما ماضيها القريب، فمهمل. إذ أن التوثيق لحياة الناس نادرٌ، كلما ابتعدنا عن المراكز الحضارية الرئيسية في جزيرة العرب، مثل الأحساء، ومنطقة البحرين (التاريخية)، والحجاز، واليمن.
حياة الناس في القرون القليلة السابقة لاكتشاف النفط، تشبه في مجهوليتها حقبة ما قبل تاريخ البشر، للمراقبين من الخارج، أما بالنسبة لأهل الأرض فيعرفون أرضهم وتاريخهم جيداً، ويتداولون قصص أجدادهم، وقصائد أجداد الأجداد. تأتي الروايات، بالمعنى الحديث للرواية، لتسدّ تلك الفراغات التاريخية. خاصة اللحظات الموازية لاكتشاف النفط، الذي غيّر وجه الحياة، والناس، في الجزيرة العربية.
روائيون سعوديون كُثر تناولوا تلك المرحلة، كان أشهرهم عبدالرحمن منيف في خماسيته "مدن الملح". وتناولها أيضاً آخرون في أعمال أحدث، منهم تركي الحمد في رواية "شرق الوادي" وفهد العتيق في "كائن مؤجل" وأميمة الخميس في رواية "البحريات".
من آخر الأعمال التي تأتي في هذا السياق، وتختلف عنه، رواية أمل الفاران "غوّاصو الأحقاف" ("جداول"، أيلول/سبتمبر 2016) حيث تتناول حياة الناس في الأحقاف وهي منطقة غامضة جغرافياً، وسياسياً، قبيل تشكل الدولة الحديثة. ما يجعل الرواية في سياق الروايات المذكورة هنا هو تناولها حقبة ما قبل النفط. أما ما يجعلها مختلفة عن سابقاتها، فكونها تتوقف عند تخوم تشكل الدولة، ولا تمدّ السرد إلى تحوّلات المجتمع الحديثة، الأمر الذي فعله منيف والحمد والعتيق والخميس .
تسرد الرواية حياة بشر عالقين بين النخيل والإبل، والصحراء والبحر. هم ليسوا بدواً، بمعنى رعاة الإبل الرحّل، وليسوا حضراً، بمعنى سكناهم في مدن أو قرى. ليسوا أهل بحر، فيكون رزقهم فيه من الصيد والغوص، وليسوا بعيدين عنه، فلا يتأثرون بتقلبات تجارة اللؤلؤ التي كانت شريان حياة بعض أجزاء جزيرة العرب الشرقية في ذلك الزمن.
الأحقاف تعني لغة كثبان الرمال العظيمة. والأحقاف جغرافياً، منطقة واسعة بين حضرموت، وعُمان، والسعودية اليوم، سكنتها قبائل عربية، عاش بعضها الصحراء، بجفافها وقسوتها، والبحر بهياجه وتقلباته. بقي بعض أبناء قبائل تلك المنطقة في حواف الربع الخالي، وقلبه، وهاجر آخرون إلى مناطق قريبة من البحر، فاختلطوا بأهله، وأصبحوا منهم، في البحرين وقطر اليوم.
تسرد الفاران في روايتها حياة المنطقة، ما هو يومي ومعتاد آنذاك، من خلال "أهل الجبل" و"أهل الوادي" من أبناء الدم الواحد، المتخاصمين تارة، والمتعاهدين على السلم عند شجرة عظيمة "مريفة" تارة آخرى. يذهب بعضهم في قوافل تجارة، ويغيب بعضهم في البحر مع "نواخذ الخليج" للغوص بحثاً عن اللؤلؤ. بينما يبقى من يبقى ليهتمّ بالنخيل، أو يخوض حروب أبناء العمومة.
جاءت الرواية لتراوح بين اللغة السردية، واللغة الشعرية، ما جعل النص يتأرجح بين نمطين، دون أن تفلت الحبكة ويتحوّل العمل إلى نص شعري، وقد ساعد في ذلك أن شخصيات الرواية كُثر، وأبطالها كُثر، ما يعني في الأخير أنها بلا أبطال.
تسرد الراوية زواج امرأة من رجل لا تحبّه، وزواج أخرى من رجل تحبّه، وتخيير امرأة في شأن زواجها، وزواج رابعة مرغمة. يأتي السرد متخففاً من الأحكام المسبقة. إنها تضيء أعراف تلك الحقبة، التي عاشها الجميع، وتقبلوها، نساء ورجالاً. وعبر هذه الحكايات، تفتح الفاران في "غوّاصو الأحقاف" من الأسئلة أكثر مما تجيب. تقدّم سرداً رشيقاً لتفاصيل حياة الناس الدقيقة، أكثر من الخوض في قصص كبرى.