استمع إلى الملخص
- يسلط الضوء على تفاعل السكان مع التقنيات الجديدة وتطور اللغة العربية نتيجة الاحتكاك باللغات الأجنبية، مع التركيز على التعليم كمحور لتعزيز الهوية الوطنية والانفتاح.
- يعتمد نادر سراج على منهجية تجمع بين الأنثروبولوجيا واللسانيات الاجتماعية، داعياً الباحثين لتبني نهج مشابه لفهم التحولات الثقافية والاجتماعية في المدن العربية.
كان من المفروض أن تكون بيروت ملتقى هذا اللقاء بين "العربي الجديد" والباحث والمترجم وأستاذ اللسانيات الاجتماعية اللبناني نادر سِراج، للحديث عن كتابه الصادر حديثاً "بيروت: جدل الهوية والحداثة"، لكنّ العدوان الإسرائيلي المُعمَّم في أنحاء البلاد والذي يقتل الحياة ويُحطّم العمران بالموت والخراب، جعل الحديث تراسُلياً من باريس، حيث يُقيم هذه الأيام صاحب "خطاب الرشوة: دراسة لغوية اجتماعية" (2008) و"الشباب ولغة العصر" (2012)، وبعد أن تعذّر عليه القُدوم إلى بيروت مطلع الشهر الجاري كما كان ينوي.
يستكمل نادر سراج (1948) في مؤلَّفه الأخير ("مكتبة أنطوان"، 515 صفحة من القطع الكبير)، مسيرتَه بدمج المقاربات اللسانية العمرانية ضمن إطار علم الاجتماع، ويُفرد هذه المرّة الحديث لبيروت في فترة ما بين الحربين العالميّتين، وبالأخصّ عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، مستعيداً زمناً تأسيسياً في تاريخ المدينة الجريحة في ظلّ واقع مليء بالانهيارات الاقتصادية والعمرانية ومحاصَر بالاحتلال والإبادة، ومُستكمِلاً ما بدأه في التأريخ الاجتماعي لبيروت العثمانية مع كتابه "أفندي الغلغول شاهد على تحوّلات بيروت خلال قرن: 1854 - 1940" (2013).
يقول سِراج في حديثه إلى "العربي الجديد": "تأتي استعادة الحديث عن بيروت، أو 'أنيسة المدن'، كما يُطلق عليها، من كونها جعلت من زمانِها وتاريخِها حوافزَ لصُنع حاضرها واستشراف مستقبلها. ولأنها 'أُمُّ الشرائع' وصانعة المعرفة ووجدان اللبنانيّين على مختلف مشاربهم. ومن هنُا فالكتاب يدرس تاريخَها الاجتماعي والعُمراني من بوّابة السرديات الصغرى، كي يعي أهلُها وقاطنوها والعالم أنّها تمتلك حياة وعَراقة وقيماً وانتظاماً، ومن رغب صادقاً في طلب ودّها الحضري عليه أن يقرأ قانون انتظامها ويتألّف مع منظوماتها السلوكية والأخلاقية. فالمدن التي خرجت من أسوارها وإسار فئوياتها العرقية والطائفية ملاذاتٌ حضرية تتّسع للجميع، ولا تحدّها تخوم الجغرافيا والتاريخ واللغات".
حين خرجت المدينة من إسار الفئوية وباتت ملاذاً للجميع
ويُرجِع المؤلّف مسوّغات عمله إلى سبب مركزي: "حتى لا تبقى الحقائق والتواريخ الشفهية والسرديات الصغرى أسيرة المُشافهة والذاكرات الفردية، أو مواضيع للمسامرات العائلية. فلا حياة بلا كتابة، بلا كتاب، ولا حياة بلا قراءة، وأيّاً تكن وسائط الكتابة فهي روح الحياة، وخيرُ جليس هو السبيل لحفظها. لذا علينا أن نكتب وننشر حتى تكون بين أجيالنا القراءات المشوّقة. أمّا جِدّة الكتاب فتتأتّى من رؤيته العمرانية والاجتماعية والأنثروبولوجية لشؤون المجتمع المديني المدروس وشجونه، وفي مقدّمها الشأن التعليمي: مناهج سياسات ومعاهد ولغات وثقافات".
ويُتابع سراج: "أمّا منهج الكتاب فيقوم على ردّ اليومي المعيش إلى رحم الاجتماعي والعمراني، ورفعه إلى مرتبة التفكّر العِلمي. وتنسب بُحوثه إلى حقلٍ بَيني من العلوم الإنسانية، يتعالق فيه الهوياتي باللغوي، والاجتماعي بالتربوي وبالسيميائي. وهو مقاربة أنثروبولوجية وسوسيولوجية، لا بل لسانية اجتماعية، في تبدُّل أحوال المعاش من وجهة نظر خلدونية".
ينطلق صاحب "الخطاب الاحتجاجي: دراسة تحليلية في شعارات الحراك المدني" (2017) في تأريخه من علاقة المُفرَدة بالاختراع الوافد (الجرس الكهربائي، الهاتف، شدّ الأسنان بالذهب.. إلخ)، ثمّ ينتقل لقراءة المشهد الاجتماعي متتبّعاً سيرورة الاقتراض اللغوي والنشاط المعجمي الموازي، مُنبِّهاً إلى أنّه في فترة ما بين الحربين بدأت الثنائيات اللغوية تفرض نفسها على الواقع البيروتي، يقول: "شغلني سؤال كيف تقبَّل الأهالي مُخرجات الحداثة الوافدة؟ اندهش أهل بيروت في تلك الفترة التي يُعاينها الكتاب بمختَرَعات العِلم الميكانيكي فأذهلتهم تقنيات التراسُل التلغرافي والهاتفي واللّاسلكي، وسحرتهم مظاهر الفرنجة À la mode française، استقبلها بعضهم - عشيّة عثمنة مُدبِرة وفرنسة مُقبلة - بحذر، وآخرون بشغف، في حين شيطنها كثُر فسمّوا 'الترامواي' مثلاً 'عربة الشيطان'".
ويُضيف الباحث اللبناني: "حقيق أنّ الحرب العالمية الأُولى استعَرَت ورافقتها سنوات المجاعة لكنّ الحياة استمرّت؛ فولادة طفل (ناجي الجمّال، وهو حفيد "أفندي الغلغول"، هاشم أفندي، الذي يتناوله الكتاب الأوّل) في شارع سيدي حسن بمنطقة البسطة في بيروت في غياب والده الأفندي، مدير الديون العمومية في يافا، اقتصرت هذه المرّة على تحويطة، وجرت من دون استدعاء طبل الزغلول وإطلاق الزغردات وتوزيع كاسات المغلي العامرة بالمكسَّرات أو 'الفواحش' كما يقول أهل الجبل. أمّا المخاطبات التلغرافية فمعبَر حداثوي، فيما تُبشّر 'مجلّة الهلال' بالتلفون اللاسلكي، والأدوات الكهربائية تغزو بيروت، وآل العيتاني المقيمون في 'زاروب الجمّال' على كتف 'عصّور' يقتنون فونوغرافاً، وتعميماً للفائدة تُعلن المجلّة عينها عن استقبال الطبيب الجرّاح محمد خالد مرضاه في عيادته الكائنة بين محلّتَي البسطة الفوقا والبسطة التحتا 'بين البسطتين'. كذلك تضيءُ فصول الكتاب قضايا حيوية ذات صلة بهوية المجتمع وأخذه بأسباب الحداثة، بما فيها قضيّة التربية والتعليم في نماذج مدارس مثل 'المقاصد' و'العاملية' و'الليسيه' و'الصنائع'".
اعتمد صاحب "صرخة الغضب: دراسة بلاغية في خطابات الانتفاضة اللبنانية" (2022) على قُصاصات الجرائد واليوميات المُقِلّة والصور الفوتوغرافية، بوصفها أدوات دقيقية غالباً ما يُهملها المؤرّخون في سرد أحداث كبيرة، في محاولة لرصد منزلة الاجتماعي الإنساني في مضامينه. ومن هنا فإنّ فصول الكتاب كما يقول: "تُجدّد النظر إلى تعالُق الهوياتي بالسوسيولوجي والأنثروبولوجي والعمراني في كنف موجات التحديث التي عاشت مدننا العربية إرهاصاتها منذ مطلع القرن المنصرم. فالقضايا التي عالجتُها متشابكة وتسترفد مسألة الهوية وجدلها مع الحداثة وتداخلها مع اللغة وتُقارب الاجتماع الإنساني بمعانيه الرحبة، وتتقصّى مناهج التعليم وطرائقه ومقاصده في المؤسّسات الرسمية والأهلية".
ويُضيف صاحب "مصر الثورة وشعارات شبابها: دراسة لسانية في عفوية التعبير" (2014): "انشغلتُ بما دُعي سابقاً بالهوامش والمنسيّات وغير المألوفات، في محاولة لاستنطاق وقائع الأرض، والإلمام بالشواهد والمسموعات والمرويات وبالمساعدات الورقية: الصور الفوتوغرافية، ووثائق الأحوال الشخصية، والمذكّرات، والمراسلات، وأقنية البطاقات البريدية، وإنترنت القرن التاسع عشر (التلغرافات). إنّها دعوة للتبصّر والتفكّر في مخبوءات التاريخ الاجتماعي، والشفهي منه على وجه التحديد".
يردُّ اليومي إلى رحم الاجتماعي ويجعله همّاً للتفكّر العِلمي
إلى جانب بطل الكتاب الأفندي ناجي الجمّال، وحكاية المدرسة التي انتسب إليها (الصنايع)، حيث اتّخذ سِراج من صورة خرّيجيها عام 1935 غلافاً للكتاب، يلفتُنا الأسلوب البحثي الذي يظهر بما هو حدّ ثالث تمتزج فيه تقنيات السرد الروائي بالعملية التأريخية، فكما أنّ اللغة موضوعٌ يبحثُه وينظُر فيه عضو مجلس أمناء "المنظّمة العربية للترجمة"، هي أيضاً عاملٌ أساسي يُشكِّل بيانه، يقول: "للّغة نصيب وازن في الكتاب لأنّها قناة التواصل الأساسي في حياة الأمّة ورافعة مُثلى لثقافة المجتمع وصنوٌ لمُرتكَزي الهوية والكينونة، ولأنّها تعكس العوالم الجديدة والعيش المتغيّر كما تبدَّيا في مسالك الحياة اليومية، بمعنى النظر إلى دينامية الدخيل والمعيش في منظومة التعامل اللغوي، فقد نشط العلماء في ميادين التعريب والاقتراض والترجمة، في الفترة التي يتناولها الكتاب، لوضع كلمات عربية للمخترعَات الحديثة كي تحدّ من غزو المقترضات".
ويُمثّل على ذلك التخاطب بمفردات مثل: الموّاج (الهاتف) والإصابة بالإنفلونزا (الحمّى الوافدة) وقيادة الأوتوموبيل (السيّارة، الجوالة) وارتياد التياترو (المسرح)، والأومنيبوس (الحافلة)، وارتياد الأوبرا (دار التمثيل) أو الأوتيل (الفندق)، وزيارة الإسكلة (الميناء/ المرسى)، وارتداء الباردوسي (الدثار) في الخارج، وانتعال البنطوفلي (الخفّ القصير) في الداخل المنزلي، والاستعانة بماكنجية الفابريقة (ميكانيكيون ملمّون بصيانة الآلات في المصنع)، لتصليح ماكينة الخياطة، إلخ.
ويُعقّب: "تطوّرت العربية جرّاء احتكاكها بلغات حيّة، فأضحت وسيلة مرنة تحمل الأفكار إلى الآخَر، وتُخرِج بمهارة مكنونات الجماعة وعصارة أفكارها. وفي هذا السياق تم تأليف 'قاموس العوامّ' لحليم دموس عام 1923 و'كتاب المُنذر' لإبراهيم المُنذر عام 1927".
ويختم نادر سراج حديثه إلى "العربي الجديد" بكلمات أخيرة يتوجّه فيها إلى الأكاديميين والباحثين، يُقيّم من خلالها مستقبل هذا النوع من الدراسات الأنثروبولوجية في ظلّ راهن مديني مُحطَّم: "تشهد مدننا العربية التي تركت بصماتها في الثقافة والعمران والعلوم اليوم أحداثاً جِساماً وحروباً مدمِّرة للحجر والبشر، وللفكر والمعارف. تتعرّض لأعتى الظروف ولمحاولات غاشمة بل مُمنهجة لتدمير معمارها وتغيير أنماط اجتماعها الثقافي وتشتيت أُناسها وطمس معالم هويتها المتسامحة والرحبة. بيروت كانت وما تزال واسطة عقدها، لذا سعيتُ لتأريخ تفتُّح حداثتها وانبلاج فجر نهضتها الثقافية والتعليمية في فترة ما بين الحربَين. حبّذا لو التزمنا أو قاربنا كأنثروبولوجيين وباحثين في التاريخ الاجتماعي وكلسانيين اجتماعيّين نهج الكتاب وأمثاله. وأعني الحفر الجادّ في مناطق بِكر والتوسّل بأدوات منهجية بينيّة، والانهماك بالهمّ العام بعين الباحث السابرة التي لا تكتفي بالوصف والسرد، بل تتعقّب توصيفها بالتحليل والاستنتاج بأساليب وصيغ مستحدثة تخرج في الأعمّ الأغلب عن تقاليد المؤسّسة. لا مستقبل لمثل هذه الدراسات البينيّة، ولن يبزغ فكر عربي أصيل ولا نهج يجاري المعاصرة، إلّا إذا تجرّأنا على طرح الأسئلة الكبرى، المحقّة والمنطقية التي راودت الباحثين، مستلهِمين قول الخليل بن أحمد الفراهيدي 'العِلمُ أقفالٌ مفاتيحُها سؤالاتٌ'. فلنجهد لربط اللسان بالاجتماع بمعانيه العمرانية التي تساوق حياة الإنسان داخل الموطن والمكان، وداخل الثقافة والحضارة، وفي الزمان".
■ ■ ■
بيروت سادنة المكان
(كلمة حول الكتاب خصّ بها المؤلّف "العربي الجديد")
بيروت، سادنة المكان وحامية حِمى الحَرف، التي نُقارِب فصولاً من تاريخها الاجتماعيّ بين دفّتَي كتاب "بيروت: جدل الهوية والحداثة"، مدينةٌ عريقة، وكائنٌ تاريخيٌّ وليس كائناً ماضوياً. ومعلومٌ أنَّ المدن لا تؤكِّد هُويّتَها إلّا من خلال اكتسابها سماتٍ رئيسةً ثلاثاً: التواصُل أو التعارُف، والعَيْش المُشترَك، ولقاءُ العامّ والخاصّ فيها.
ومهما نزلت بها ويلات وغزوات وانشطارات وأحداث جِسامٌ، وهو ما اشتدّ عليها منذ نهاية صيف وبداية خريف العام الجاري، فهي لا تزال تؤمن بهذه الخواصّ الثوابت التي تعزّزت قولاً وفعلاً مع تطوُّر مفهوم الدولة الحديثة. وبما أنّها ليست مؤَسْطَرةً أو مثاليّةَ المَلامِح، فهي على توزُّعِها اليوم "بيروتات" مُتخيَّلة عند البعض، تحافظُ على سِمَتي التجانُس والتنوّع، وتُحاذِر الشقاق والتخاصم، لذا فهي تَعبقُ بروح المُدن العربية الأصيلة، وتَدفع ثمن الانفتاح على الآفاق الرحبة للتمدّن.
يدرس "بيروت: جدل الهوية والحداثة" موقع العشرينيات والثلاثينيات "السنوات الذهبية"، وما تلاها في مسارات نهوض المجتمع وارتقاء الصنائع والفنون وتجلّيات الثقافة وانبلاج اللغة وشيوع الثنائيات اللغوية. وتركَّز انشغالُنا فيه حول التواريخ الصغرى لعائلات وأفراد عاشوا تبعات "البلايا التي شهدتها سورية" في الثلاثينيات وما قبلها. هو تاريخ الناس، أي تاريخ متنوعُ الأخبار، يختلف عن المسلك التاريخي الكلاسيكي المتواصل الحلقات، الذي يرصدُ الأحداث الكبرى ويحتفي بسير الأُسر المالكة والزعماء والشخصيات المعتبرة، ويشبعُها درساً وتوثيقاً وإبرازاً.
التزامُنا بالناس المتنوّرين والمُدبِّرين، أبطال حكاية التحديث، وبكيفيات تطوُّر عيشهم وسلوكياتهم استدعى "نبش الدفاتر" واستقراء الوثائق ومعاينة الصور وفتح الفضاء العمومي لمعالجة قضاياهم الحيوية ورصد مساراتهم اليومية التي تتمتع بخصوصية محلّية، ويُدرجها المتكلّمون عادةً في خانتَي تحصيل الحاصل واليومي المبتذل.
وفي تلك السنوات التي يُضيئُها الكتاب، نَعُمَ عيشُ الناس وارتقى اجتماعُهم الثقافي وانطلقت معاهدُهم ومدارسُهم سعياً لخلق أجواء استنارة عِلمية منشودة؛ وقرظَها شعراؤهم مرحّبين ومثمّنين حضورَها، فتآلفوا مع تأثيرات الانتقال الاجتماعي التدريجي لحاضرتهم نحو الحداثة. تقبّلوها بتشوّق وطيب خاطر، وأفادوا من مُخرجاتها ومنافعها، ورفدوا بحضورهم البهيّ نسيجَ الحياة اليومية في بيروت "ما بين الحربين"، بيت القصيد في الكتاب.
وحيث إنّ المرامَ سدّ فجوات الذاكرة في عوالم تكاد مستجدّات العصر وثورته المعلوماتية تُنسينا إيّاها، رفدْنا الكتاب بمقدّمة تجذب القارئ وتُنعش مَدارِكَهُ. جَعلناها تَنجدلُ في خصلاتٍ ثلاث:
يُضيء سياسات التعليم والمعاهد في لبنان الثلاثينيات
أولاها الموضوعات المُتواشِجة مع شؤون الحياة اليومية وشجونها وما أغزرها؛ وثانيتها تباشيرُ الحداثة التي قَرعت أماراتُها بوّاباتِ بيروت - وسواها من مدن المشرق العربي - انطلاقاً من بعض الأمثلة الاستهلاكية الملموسة: "جرس الباب الكهربائيّ المودرن" الذي خَلَف الكفّ المعدني بشكلَيه الصغير للنساء والكبير للرجال، و"شلّ بوتاغاز" وطبّاخ "تريبلكس يونيفرسال"، و"ماكينة جيليت"، و"بطّارية وندر"، وصولاً إلى "راديو جنرال إلكتريك" و"أوتوموبيل ناش". فتجاوب أهلُها ليدخلوا وعاصمتهم معارج عصر التنوير بثبات وذكاء اجتماعيّ لافتَين. أمّا ثالثتها الاستشرافيّة المنحى، فتمحوَرت حول التعليم الذي رؤوا فيه شأناً عامّاً وتواصُلاً مُستداماً وارتقاءً اجتماعيًاً للجنسَين.
ترافقت التأثيرات التعبيرية اللغوية مع إرهاصات العِلم الميكانيكي وما نتج عنه من مُسمّيات أجنبيّة، فحفّزت مسارات الاقتراض والتعريب، بعدما غزت الفرنسية مناحي الحياة اليومية فيما تبعاتُها تلحقُ بالتجّار وأصحاب المهن الحُرّة وحتى تلامذة الصنائع. لذا كان منطقياً أن يُستَنبتَ في العشريّة الثانية من القرن المُنصرم "قاموسٌ للعوامّ" (1923)، اعتبره مؤلِّفُه الشاعر حليم دمّوس "سِفراً صغيراً"، "مَيَّزَ فيه بين "الفاسد" و"الصحيح"، فخَطَّأ الأول وأخذ جانب الثاني.
ليس المرادُ بالثلاثينيات التي يتكرّر ذكرُها في الكتاب الفترة الممتدّة في عقد واحد من الزمن. وإنما جعلناها هي محور اهتمامنا لأنها تُعبّر عن دورة النشاط التحديثي الذي عاشته بيروت وحواضر المنطقة، ولأنها تنتظم ذروة الفورة الاجتماعية الاقتصادية التي شهد أهلها نتائجها الملموسة واختبروها. وهي امتدادٌ طبيعي لما سبقها في العشرينيات، وتهيئةٌ لما تلاها في الأربعينيات والخمسينيات.
لهذه الغاية طرقنا بوابةَ السرديات الصغرى لأهل بيروت لندرسَ نمطَها الثقافي الاجتماعي وطُرُزَها العمرانية، كي يعي أهلها وقاطنوها أنها معمورةٌ ببشرٍ من لحمٍ ودم، بقدر ما هي مداميكُ حجارة ومبانٍ وعمائر. فإنسانُها الذي عَمَرَ أرضها وشيّد منشآت تنموية (صنايع مكتبى أو مدرسة الصنائع والفنون، الكازينو الجديد أو قصر الصنوبر، القشلة أو السراي، والخستخانه أو المستشفى العسكري، الساعة الحميدية)، متعيّنٌ داخل الموطن والمكان وداخل الثقافة والحضارة. تعاضد أُناسها وولاتُها للرفعة من شأنها، استكملوا خريطتها العمرانية بتشييد كازينو ودار سينما وبإنجاز ميدان لسباق الخيل، ونظّموا عقد مقاولة بين ألفرد سرسق وجبران طرزي لتنفيذ خشبيّة قصر الصنوبر، وحوّلوا جادّة الفرنسيّين إلى ثقافة تسوّق وتموضع مفضَّل للتصويرالفوتوغرافيّ.
وما إن أزِفت الثلاثينيات والأربعينيات حتى انجلت تحوّلاتُها أناساً ومهناً وطقوساً واختراعات وثنائيات لغوية. أمست حداثتُها مجلِبةً للرفاهية والتسوق وثقافة السَّهر والترفيه، فتكاثرت الفنادق والمقاهي والمرابع الليلية وصدحت محطة راديو الصنائع. وشُيّدَ الكورنيش، فعلّق الشاعر عمر الزعنّي: "قبل الكورنيش طالبين نعيش"، وساعة العبد "بأحشر سوق نصبوا الخازوق.. خازوق كبير وبراسه ساعة.. خلصنا من الكورنيش وقعنا بالساعة".
أسوة بأهل الثغور، ما كان البيارتة عموماً يمتلكون الوعي الحادّ بالخصوصيّة ويعيشونه، ولا عملوا على إشهاره. بانفتاحٍ إدراكي وثانٍ عمليّ تقبّلوا الجديد المُفيدَ، وتعاملوا بذكاء اجتماعيّ مع الوافد المُبتدِع، بمُخترعاته ومُسمّياته المُتسرّبة إلى مناحي حيواتهم. انسابت في نسيجهم اللغوي ودخلت حصيلتهم المُفرداتية فأغنتها نَحتاً وتعريباً واقتراضاً. آثر المتنوّرون منهم جمع طائفة من الألفاظ الأعجمية والمفردات العامّية والمُحرَّفة مع ما يُرادفها من المفردات والعبارات الفصيحة في هذه اللغة الشريفة. كما بشَّرت الأديبة ميّ زيادة قومَها بأنّ "الإنسانيّة مُستودع جميع النّزعات والكفاءات والعبقريّات والمقدّرات"، واستتبعت وجهةَ نَظَرِها بكلامٍ مَدارُه دخول الآلة إلى حياة البشر، بمَن فيهم أهل بلدها بطبيعة الحال؛ فاعتبرت أنّ "المَظهر العِلميّ الآليّ في الإنسانيّة عبقريّة بديعة مُدهِشة". ومن جِهتها تطرَّقت مجلّة "الهلال" (1922) إلى "عجائب الفنّ الجديد" من مُخترعاتٍ ومُخاطبات، بما فيه "مُستحدثات التلفون اللّاسلكي"، وانتهت إلى أن العالَم أصبح أفضل جرّاء اختراع اللاسلكي وتعميمه".
روّجوا أن عجائبَ هذا الزمن أربع: "الباخرة، الطائرة، السيارة، والحذاء المودرن الطراز ستندرد"، وأن "زينيت أحسن وأضبط وأجمل ساعات وجدت إلى الآن". كما زيّنوا للأهالي أنّ "البلاط الاصطناعي يُشبه الرخام وناشف مثل قرميد فرنسا"، وأنّ "الإنارة المنزلية المُرشَّدة والاقتصادية تتمثّل بلمبات Mazda". واكتشفوا بأنفسهم أنّ "التلفون كالأوتوموبيل شيء جديد في سورية وهُما ابنا الحرب العامة"، وأن "الأجهزة الغراموفونية الراقية لها ميزة التوقّف الأوتوماتيكي للأسطوانات"، في حين أن "فونوغرافات وأسطوانات الغزالة ماركة بيضافون المسجّلة على الكهرباء، تُباع في بيروت وسورية والعراق". وأعلن عمر الداعوق عن ساعات "تمشي دائماً بدون تدوير" وتُباع في مخزنه ببيروت. كان للحرب العامة إذاً حسناتها التي يسّرت سبل التواصل (التلفون والأوتوموبيل).
كذلك نلتفت في الكتاب إلى التأريخ لأحوال التربية والتعليم ونتناول المعاهد الوطنية والإرساليات الأجنبية، ولا نغفل تنديدَ سليم سلام في "مجلس المبعوثان" بتردّي الأوضاع التعليمية في بيروت. ونعرّج على استهاض تعليم الصنائع والفنون وانبلاج النهضة الصناعية في "صنائع مكتبى" التي أولت اهتماماً بتدريس المهن الكهربائية والميكانيكية والطوبوغرافيا لتواكب متطلبات العصر. كما نلفت إلى اهتمام "المقاصد" بالبعثات العلمية إلى الخارج وتشييد "مستشفى المقاصد". ونسلط الضوء على حضور التعليم العلماني الفرنكوفوني (اللاييك) في منطقة الطبّية ببيروت، والمقولة المشهورة لمؤسس "الليسيه" الفرنسي بيار ديشان في العام 1920 بخصوص تدريس العربية: "نكونُ مدرسةً جيدةً إذا ما عرفنا أن نكونَ مدرسةً عربيةً جيدة".
آمنَ الأهالي ومثلهم أهلُ العِلم والعاملون في مجالات التربية والتعليم بأنّ التعليمَ شأنٌ عامٌّ وتواصُلٌ مُستدام، يَرفع من شأن الأُمم، ويُشكِّل مَصدرَ إثراءٍ للتجربة الإنسانيّة ككلّ؛ فبَذَلوا جهوداً أهليّة جبّارة لنشره وتعزيزه، وتنادى أهلُ الخَير منهم - من كلِّ العائلات الروحيّة - لافتتاح المدارس وعلى وجه التحديد المُخصَّص منها لتعليم الفتيات، وتطوير القائم من المعاهد وتعزيز مناهجه ("مدرسة الصنائع والفنون"، ومدارس "المقاصد" و"الرهبانيات" و"العاملية"..). كما عزَّزوا مجالات التعليم والثقافة والفنّ والصنائع، وشجَّعوا على تدريس التّقانات وأحدث فنون النَّسج والحياكة، فنَشَّطوا قطاع الحرير الإنتاجيّ وسواه، الآيلة بمجملها إلى ارتقاء العلوم والمعارف والصنائع، وإلى بثّ روح الوعي والاستنارة، سبيلاً لتحسين ظروف الحياة المهنيّة وتنويع مصادر الدخل.
وبما أنّ التحوّلات التي شهدتها الحواضر العربية طالت قطاعات حيّة في الحيّز الحضري المدروس، فقد تطرّق الكتاب بالتفصيل إلى نهضة المدارس والمعاهد، وإلى لزوميات التمدّن ولغاته وثقافته وشفراته الاجتماعية التي شكلت للأهالي منظومة معرفية وسلوكية متكاملة. وأكثر ما شغلنا لدى معالجة المسألة التربوية التعليمية هو كيفيات تعامل الأهالي مع ما كان قائماً من مؤسسات التعليم ما قبل الجامعي وشهد نهوضاً ملحوظاً، أو مع ما تأسس منها خلال الحقبة المدروسة. فقد تجلّت في تنشئة وطنية قويمة مصاحبة بانفتاح تربوي تعليمي تظهرت بعض أوجهه "تدريساً علمانياً... العدل مُناه، ومذهبه... المسلمُ خِدنُ النصراني"، كما جاء في نشيد "التدريس العلماني" نظم الشاعر عبد الرحيم قليلات عام 1932. وسبق للشاعر إبراهيم بك الأسود أن قرظ "مكتب الصنائع" عام 1907 بقصيدة استعار فيها صورة بلاغية مستمدة من ثنائية الروح والجسد. فرأى أن حالهما حال "الصنائع للورى كالروح للجثمان".
في عالَمٍ تتسارع خطواتُهُ وتتعدَّد أكوانُهُ وتتدافَع لغاتُهُ وتتمازج ثقافاتُه، استجابَ أهلُ المدينة وقاطنوها لحركة التاريخ ونسائم التحديث؛ فعدَّلوا أشرعتهم، وأبدَوا تلهّفاً واستعداداً مقرونَين بعَزم وثبات، لا بحذرٍ مشوب بالريبة، لترسيخ هويتهم الوطنية وبلورة حيثيّتهم المُدُنيّة وتطوير أنماطهم السلوكيّة. فتهيَّأوا بقدر ما أُوتيَ لهم، لتلقُّفِ بواكير الحداثة الغربيّة الوافدة وملاقاة مُخرجاتها والتعامل بأدواتها. وحيث إنّ خطاب الحداثة كان يومها يعنيهم ويُشبههم، جماعاتٍ وأفراداً، فقد نحا مُجتمعهم بالتدريج صوب اختيار الأنماط السائدة والأكثر نفعيّةً والأقرب مواءَمةً مع تقاليدهم وأعرافهم الاجتماعيّة من الحداثة آنذاك.
بطاقة
وُلد نادر سراج في بيروت عام 1948، وحصل على دكتوراه في اللسانيات من "جامعة السوربون الجديدة" في باريس، يُدرّس مادّة فنّ التواصل في "كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان" ببيروت. درّس اللسانيات العامّة واللسانيات الاجتماعية وفقه اللغة والترجمة والتعريب وتذوُّق الأدب العربي في "الجامعة اللبنانية" وجامعات أُخرى، كما عمل أستاذاً زائراً في جامعتَي صنعاء اليمنية وسانت إتيان الفرنسية، وأستاذاً باحثاً في "جامعة هايدلبرغ" بألمانيا. ويشغل عضوية مجلس أمناء "المنظّمة العربية للترجمة".
أصدر سراج ستّة عشر كتاباً بالعربية والفرنسية، من بينها: "حوار اللغات" (2007)، و"خطاب الرشوة: دراسة لغوية اجتماعية" (2008)، و"أفندي الغلغول: شاهد على تحوّلات بيروت خلال قرن 1854 - 1940" (2013)، و"مصر الثورة وشعارات شبابها: دراسة لسانية في عفوية التعبير" (2014)، و"الخطاب الاحتجاجي: دراسة تحليلية في شعارات الحراك المدني" (2017)، و"البيت: السوسيولوجيا واللغة والعمران دراسة لسانية تطبيقية" (2017)، و"معجم العربية المحكية في لبنان: ألفاظ وعبارات من حياة الناس" (2020)، و"صرخة الغضب: دراسة بلاغية في خطابات الانتفاضة اللبنانية" (2022).