(يتضمن المقال كشفاً عن أحداث مهمة)
كان 28 من مايو/أيار الماضي، يومًا خاصًا لمحبي مسلسل Succession، وسببًا مشروعًا للتغيب عن العمل، منذ الإعلان عنه تاريخًا لعرض الحلقة الختامية من قصة عائلة روي التي بدأت في عام 2018، وتوزعت على 39 حلقة خلال مواسم أربعة.
تخطى عدد مشاهدات الموسم الرابع المليونين، ما يجعله الموسم الأكثر شهرة من المسلسل وفقًا لبيانات العرض على HBO. لكن Succession ليس مسلسلًا جماهيريًا وفقًا للأرقام ذاتها، فهو لم ينجح في الوصول إلى قائمة الأكثر مشاهدة من بين أعمال HBO التلفزيونية، إلى جانب مسلسلات أخرى أنتجتها الشركة مثل The Last Of Us، لكنه مع ذلك حقق شعبية كبيرة، وحصل على العديد من الإشادات النقدية والجوائز الفنية التي ينتظر مزيدًا منها خلال الأشهر المقبلة.
لغته الفجة وتركيزه على الصدمات النفسية المتوارثة والعطب العائلي؛ كلها موضوعات جعلت السلسلة الشهيرة ما هي عليه اليوم، لكنها أبقتها بعيدًا عن متناول الجميع أيضًا، خاصة بمحتواها الثقيل غير الملائم لطقوس المشاهدة المعاصرة على دفعة واحدة (Binge-Watching) واحتوائها على تفاصيل دقيقة وموسعة عن عالم إدارة الشركات، قد لا تكون ذات صلة للجميع. أضافت كل تلك الخصائص إلى سحر المسلسل ومتعة اكتشافه؛ فمن بين وابل من أعمال تتطرق إلى عالم الثراء المترهل ذاته، تميز Succession بطابع أدبي وشعري فيه حيز واسع للابتكار والتجديد، حتى في أكثر نكاته وعباراته بذاءة، ناهيك عن سيناريو وحوارات وصفت مرارًا بالشكسبيرية، لما فيها من دراسة معمقة للشخصية وتركيز على البناء النفسي والعيوب التراجيدية بشكلها المعاصر.
اتخذ منتجو المسلسل، وفي مقدمتهم مبتدعه جيسي آرمسترونغ، قرارًا شجاعًا بإنهاء المسلسل وهو في ذروة نجاحه وأمامه مهام كثيرة عليه أن ينجزها، مثل إكمال أقواس شخصياته المتنوعة وتقديم إجابة مرضية عن واحد من أكثر أسئلة المسلسل إلحاحًا: من سينجح في تحدي سلطة لوغان روي وربما خلافته على عرشه أيضًا؟ لا تعني تلك الخلافة الكرسي الذي لطالما تطلع إليه الأبناء الأربعة بعيون واسعة، ووعد به أحدهم على الأقل خفية عن آذان البقية، لكنها تجسد صراعًا معاصرًا في مجتمع يقف على شفا التغيير أيضًا، ويخضع إلى تحولات في طرق التعبير عن العاطفة والانتماء، متحديًا الأدوار النمطية وثوابت العلاقات التقليدية، ومنها تلك التي بين الأجيال المتعاقبة، ويدعو إلى إعادة توزيع السلطة البطريركية ومواقع القوة والقيادة.
يبدأ الموسم الرابع حيث انتهى سابقه، مع نية لوغان روي بيع إمبراطوريته الإعلامية وايستار رويكو لصاحب الرؤية التكنولوجية السويدي لوكاس ماتسون، في ذات الوقت الذي يسعى فيه لتنفيذ استحواذ كبير على شركة نان بيرس. في قلب كل ذلك الترقب والحبكات الثانوية والمتشابكة، ينحر صناع المسلسل صراعهم الرئيسي فجأة، ويسمحون للموت بخطف لوغان روي على متن طيارة خاصة، لن تهبط به حيًّا.
الحضور الأبوي الذي استمد الأولاد وجودهم من الوقوف في مواجهته، أو في ظله، بات الآن غير موجود. كما مثّل هذا الحضور واحدًا من أهم أعمدة المسلسل وذرائعه، ودافعًا للأبناء الذين لطالما كانت رغبتهم في تخطي والدهم هي هاجسهم الرئيسي. يقوض الموت الوهم الذي مركَزَ الإخوة حياتهم بأسرها حوله، ويجردهم من سلطتهم ونفوذهم وطموحاتهم لوهلة قصيرة فقط. لكل طريقته في الحزن، وحداد الإخوة إما أنه انتهى، أو لم يبدأ بعد. المهم أن يستعيد الأولاد رباطة جأشهم ويواصلون ملاحقة ما هم أنفسهم يجهلونه. وأعداؤهم الجدد هم صفقة غير مبرمة ومجلس إدارة مستحاثة، إضافة إلى أكوام من العقود والأرقام والتوتر العائلي. تتضاعف الصراعات داخل العائلة حول بيع الشركة، وعلى منصب "البدلة الفارغة" تحت إمرة لوكاس ماتسون. مسألة ينقسم فيها الأبناء اثنين مقابل واحد هذه المرة، وتنتهي بخسارة الإخوة روي لشركتهم العائلية وانتصار تكتل "الأخوين المقرفين" مع حلول توم وامبسغانز مديرًا تنفيذيًا للشركة، وإبقائه على غريغ صبيّاً لديه.
حقق وصول توم إلى كرسي الإدارة نبوءة لطالما توقعها متابعو المسلسل، على الرغم من تعاطفهم مع هذه الشخصية أو تلك، أو تفضيلهم لفريق الأشقاء على ذاك الذي يمثله "الوحش"؛ كلمة يقصد بها رومان مديح والده. لكن كثيرين قد ينكمشون على أنفسهم عند سماعها بصوت الابن المرتجف وهو يودع والده على سماعة الهاتف. آل روي ماضون لتبديد إرثهم المادي والمعنوي. مهما كانت السيناريوهات المحتملة، إلا أنها تصب جميعًا في ذات النتيجة المؤسفة، ولأسباب بات يعرفها جيدًا من تابع السلسلة منذ بدايتها. سيبيع لوغان روي الشركة، مفارقًا الحياة وهو على قناعة تامة أن أولاده غير جديرين بالاحترام أو المناصب. أما أولاده، فيغرقون أكثر في بحر الفرص والاحتمالات المفتوحة أمام أمثالهم من المنعمين، إلى حد أن يفضل أحدهم خسارة الشركة بدلًا من أن يستأثر أي من إخوته بها.
كان صوت شيف هو الحاسم هذه المرة، لكننا نعلم أن النتائج ليست بالضرورة أن تختلف لو كانت الأدوار معكوسة، إذ أثبت تفاوت اهتمام الأولاد الأربعة بكرسي الرئيس التنفيذي من موسم إلى آخر أن غايتهم الأولى لم تكن يومًا المال أو النفوذ، تلك أشياء لديهم منها ما هو فائض أصلًا، وإنما توق عميق لمعرفة "الابن رقم واحد"، وهو الحلم الذي رسمه كيندل يومًا على رمال الشاطئ، وضحت لأجله شيف بعملها السياسي، وفتح رومان في سبيله باب البيت الأبيض أمام رجل فاشي. من الذي أراده لوغان فعلًا؟
تحدد الإجابة عن ذلك السؤال أشياء تتخطى كرسي الرئيس التنفيذي بالنسبة للأولاد، فالخليفة المختار هو الابن المحبوب أيضًا، الجدير بتربيتة على الكتف وإيماءة من الرجل العجوز تعني أنه أبلى بلاءً حسنًا. الخط الذي رسمه الأب أسفل اسم كيندل في وصيته، ليس إلا مثالًا آخر عن التلاعب العاطفي الذي أربك الأولاد طيلة حياتهم، باستثناء كونور الذي تعلم العيش بلا حب أو اهتمام، ولو في عوالم بديلة يكون هو بطلها ذو الوشاح الوهمي.
من المعروف أن الخيول تزيد من سرعتها عندما تشارف الوصول إلى نهاية خط السباق، ولعل ذلك بالضبط ما حصل مع هذا الموسم من Succession، فعلى الرغم من احتوائه عددًا من أقوى الحلقات في تاريخ التلفزيون، وبات بعضها أقرب في مدة عرضه للفيلم الروائي، مثل الحلقة الأخيرة With Open Eyes، إلا أن استعجال الأحداث في الختام أضعف من دوافع الشخصيات والحبكة، وزعزع البنية التي أرسى صناع المسلسل دعائمها منذ الحلقات الأولى.
مع ذلك، لا يمكن اعتبار المآلات التي وصل إليها Succession سوى نتائج طبيعية للمسار القديم، إذ يتحرك المسلسل في بنية دائرية، وصلت إلى نقطة انطلاقها مع الموسم الرابع الذي يبدأ بحفل عيد ميلاد آخر للوغان، وينتهي بوفاته بسبب ما سبق ونجا منه في الموسم الأول.
يعود كيندل إلى الماء الذي زحف إليه مرات عدة خلال المسلسل، ففيه حاول إغراق أفكاره مرة، علها تطفو إلى جانب جثة النادل الذي يحمل كيندل ذنب قتله، كالرجل في قصيدة تحمل عنوان Dream Song 29، التي استوحى منها العمل عناوين الحلقات الأخيرة من كل موسم، وإليه ينتهي بعدما حرمته شيف من حلمه الأبدي، فجلس على حافته واختفى كليًا وكأنه يتماهى مع الهواء، أمر أجاده جيرمي سترونغ بدور كيندل في كل مرة يفشل فيها تمرده على والده، وتتلاشى قصة نجاحه قبل أن تكتمل، كالكتابة على الماء.
يبتدئ رومان مسيرة كحولي خائب، وترخي شيف يدها في راحة توم، راضية بزواج صوري، تكون فيه زوجة الرجل الأقوى، لا شقيقته، خلافًا لما دافعت عنه طوال مسيرتها. أما عالم الشركات، فيثبت أنه الأكثر مرونة، ويقشر جلده آلاف المرات، مجهزًا نفسه لارتداء حلة إيلون ماسك هذه المرة.
يحب صناع Succession إفساد الأعراس والحفلات حتى في أوقات إقامتها خلال المناخات الرمادية الكئيبة. ولعل تلك الموضوعة المتكررة على طول المسلسل، تخبرنا شيئًا عن الواقع الاجتماعي الذي يطمح إليه كثيرون، وتتجلى من خلاله تجربة الحلم الأميركي في أكثر أشكالها جموحًا، إذ يبني المسلسل على رغبة غير معلن عنها في تفكيك قصص الأثرياء وتوضيح عجزهم عن الشعور بالسعادة أو الحب. ما يخاله الأبناء حدثًا غير اعتيادي في حياتهم، تسخر منه والدتهم ببرود شديد، مشيرة إلى آلاف المرات التي تخربت فيها حياتها بسبب "اجتماع مجلس إدارة مهم". ليست الوالدة ضحية في قصة آرمسترونغ، بل مسؤولة إلى جانب لوغان عن صدمات الطفولة التي يركز عليها الموسم الرابع، وتحديدًا الأزمات النفسية التي يعاني منها رومان إثر تعرضه للضرب في سن صغيرة، ويعود إليها المسلسل عبر واحد من أجمل مشاهده على الإطلاق، حين لا يجد كيندل سبيلًا لتهدئة شقيقه خلال أحد انهياراته النفسية، إلا عبر عصر جبهته حتى تنزف.
يتقمص كيندل في فعله هذا صورة والده كما يعرفها، معبرًا عن استعداده للحلول مكان ليس في كرسي الشركة فحسب، بل في حضوره الأبوي العنيف وسلطته التي تتغذى على "غريزة القتل". يحب لوغان أبناءه طالما أنهم مستعدون لعناق قد يتركهم كومة من العظام لا تقوى على الوقوف أو المواجهة، وحينها سيحتقرهم من جديد لافتقادهم الصلابة. تلك هي العاطفة الوحيدة التي قدمها لوغان لأبنائه طوال حياته، وتركته الأثمن التي سيعيشون على اجترارها ما لم يعوا ذلك.
بعيدًا عن القصة، يبرز في هذا الموسم اهتمام دقيق بالتفاصيل، بدءًا من الملصق الذي يصور طائرة تحوم في السماء خلف الأبراج العالية التي يحكمها آل روي، إلى جانب إحداث تغييرات طفيفة في شارة البداية، كقيادة كيندل للسيارة وهو طفل، إيحاءً بتأثير حادثة السيارة التي يذهب ضحيتها النادل على مستقبله لاحقًا، وصولًا إلى ارتداء زوجات لوغان السابقات وعشيقاته لذات النوع من المجوهرات في أعناقهن خلال مشهد جنازته. وأخيرًا الأداء المميز لكل من شيف (سارة سنوك) ورومان (كيران كولكن).
يصل Succession إلى نهايته بعد سنوات خمس، حملت لمشاهديه كثيرًا من اللحظات المؤثرة والأداءات الاستثنائية. نجاحه الكبير أعاد الشعبية للتمثيل المنهجي الذي يفترض تسرب الدور إلى عظام مؤديه داخل الاستديو وخارجه، وشجع على عودة بروفات الكتابة الجماعية أثناء التصوير، بعدما خف بريقها مع تشديد الحدود بين الممثل والكاتب التلفزيوني. أيا كانت الطرق المعهودة، لا يمانع صناع Succession تركها خارج الأبواب والدخول في مغامرة جديدة، قد تكون الأكثر نجاحًا منذ سنوات عدة.