استمع إلى الملخص
- تناقض بين حلب والسويد: يعرض الفيلم التباين بين حيوية حلب وهدوء السويد، مما يعكس حالة الابن النفسية في بيئة مرتبة تفتقر للدفء، بينما يعيش الأب في مدينة آمنة رغم الفوضى.
- الحنين والانتماء في ظل الغربة: يعبر الفيلم عن مشاعر الحنين والانتماء للسوريين في المنفى، حيث يستعيد ياسر ذكريات الطفولة، مما يعقد مفهوم الحنين ويبرز تحديات البحث عن الانتماء.
هذا الرنين نفسه يُقرّب مسافات نائية، ويثير أشجاناً يبدو أنّها لم تنتهِ. اتصالات لا تنقطع، يتابعها ابنٌ مع أبيه. يبدو أنّ طول الغربة لا يُخفّف من تواترها، ولا انشغال الغربة، الذي يتذرّع به المغتربون. مُهاجرٌ كأنّه لا يزال على حاله منذ سنوات. يبدو أنْ لا ملامح تغيّر مبهج. أيمكن القول: "على العكس"؟
المخرج السوري ياسر قصاب يختم ثلاثية وثائقية. دائماً برفقة أبيه، يتقابلان عبر شاشة. يلتزم معه حواراً يُشكّل ركناً أساسياً من يومياته. أهذه حاجة معنوية، أمْ ضرورة فيلمية؟ بدأ معه بعد هجرته إلى السويد، في "على حافة الحياة" (2017)، ثم "لم أرَ شيئاً، رأيتُ كلّ شيء" (2021)، وأخيراً "مطاردة الضوء المبهر" (2023)، الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل (جائزة الوهر الذهبي) في الدورة الـ12 (4 ـ 10 أكتوبر/تشرين الأول 2024) لـ"مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي".
لكنْ، من يطارد هذا الضوء؟ بل أين الضوء، والفيلم لا ضوء فيه ولا إضاءة مبهرة، باستثناءات نادرة؟ كأنّه قرر أنْ يترك لنفسه العنان لتعبّر بقوّة لافتة للانتباه عن شجن متأصّل.
رنين الهاتف صوت رئيسي في الفيلم، كفيلمه السابق. لا تغيير إلّا في إبراز عمق مشاعر وبرودة وكآبة محيط بلغة سينمائية مؤثّرة، وأنضج. ودّع ياسر وريما حلب عام 2012، على أمل عودة قريبة، كما يكتب في مقدمة الفيلم. أكان هناك أمل بعودة، حقّاً، أمْ أنّ الوهم بدأ من هنا، ورافقه وهم انطلاق واندماج في الغربة؟ الأب قلق على ابنه. يسأله بانتظام عن أشغاله وأفلامه. يعطيه نصائح: "انتقل إلى العام، واعمل نقلة فنية متميزة. الحالة الشخصية لا تلفت نظر أحد، ولا تلقى اهتمامه، ونادراً ما سيحسّ أحد مثلك بأحاسيسك". صوت الأب مليء بحيوية وحماسة، تُعبّر عن وقعه صُوَر الخارج، كأنّها ردّ عليه. أشجار عارية وثلوج وأمكنة خاوية، لعلّها لسان حال ابن يُعلّق بصوتٍ يوحي بكآبة تلتقي مع المَشاهد. إنْ كانت جميلة وشاعرية، بل غاية في الجمال، إلّا أنّها صامتة ورمادية وحزينة حزن شتاء بارد.
كأنّه يحاول، وهو يفطن إلى أمر، أنْ يعطي لنفسه مُبرّراً ليُحمّل صوته حيوية ما. يسأل عن مشروع قديم لأبيه لدراسة السينما في روسيا، لم يتحقّق في سورية، بلد الوساطات، فتخلّى عنه. الأب هو من يتكلم معظم الوقت. يُصوّر، بطلبٍ من ياسر، البيت والمدينة، فلا يظهر إلّا خرابها. هناك تناقض بين الجهتين. تظهر حيوية حلب وحركتها وضجيجها رغم الدمار، ويتجلّى مللُ سكون السويد ونقائه وترتيبه الشديد. المدينة تنعكس في ساكنها.
طوال الفيلم، كان الأب متحمساً ونابضاً بالحياة، عكس ابنه. كأنّ الأب هو من يسكن مدينة آمنة. كأنّه لا يعاني الزحام والدمار والفوضى والانهيار التام لمحيطه، ولا عليه أنْ يحتمل انتشار الفساد واليأس التام من الأوضاع، ويسمع قصص آباء مثله يعانون مغادرة أبنائهم الشباب، حتّى في سنّ الـ16، تهرّباً من التجنيد. كأنّه لم يفقد معظم أصدقائه موتاً أو سفراً، فـ"كلّ واحد في ديرة". كأنّه ليس في "دولة نائمة وغائبة وتنهار"، حيث لا أطباء ولا أصدقاء ولا تصدير منتجات لبلد منقسم.
رغم ذلك، الأب هو من يحكي ويُحمّس ابنه للعمل والنشاط والانتباه وتحضير المشاريع، بل يرسم خطة العمل بتفاصيلها: حدّد الموضوع، ثم قال له أنْ يُبقي دائماً معه ورقة لتسجيل ملاحظاته. الابن لا يردّ. مهموم بمشكلات الغربة. هذا الوقت يمضي، وعدم القدرة على إقناع النفس باستقرار وضياع الزمن أمام محاولات لا تنتج الكثير، ولا تسمح باندماج فعلي. إنّه قدرُ السوريّ اليوم: إضاعة عمره في الانتظار. انتظار الهجرة، ثمّ الأوراق، فشعور باستقرار. هكذا يمضي العمر.
في ذاتيّة الأفلام الثلاثة لياسر قصاب عمومية تُعبّر عن البلد والمنفى والحنين. لكنْ، حين يستعيد ذكريات الطفولة مع الأب، يعيد تشكيل مفهوم الحنين. مفهومٌ لم يعد نفسه، ولا شأناً رومانسياً. تعلّق ريما (زوجة ياسر ومنتجة الفيلم). جيل الأب حسّاس وعاطفي لا يحتمل الغربة، حتّى إنّه لا يريد جمع الشمل مع الابن. جرّب ألمانيا في شبابه. هناك، حيث "لا نُحسّ بلذّة الحياة" كما قال. كأنّه لخّص كلّ شيء: لم يُحبّ الغربة، ولن يُحبّها.
تتبادل الأمكنة ظهورها: حلب أو المنفى، داخل ـ خارج. الصُّوَر مُعتمة في المكانين، أكانت بياض ثلج ورمادية طبيعة، أم أبنية متربة منهارة. وباستثناء لقطات مقرّبة لريما، يظهر ياسر في الصورة قليلاً، مُديراً ظهره إلى الكاميرا، أو مُظهراً نصفه من قريب، أو كلّه من بعيد، باعتبار ذلك جزءاً من محيطٍ، أشجاره عارية وثلجه قارس. الأب لا يظهر في لقطات مُقرّبة إلّا في صُوَر قديمة من شبابه، مُقابل لقطات بعيدة اليوم. كأنّه بات صورة ضبابية في الخيال، معالمها غير واضحة.
ببساطة واقعية، يبدي "مُطاردة الضوء المبهر"، الفائز بجائزة أفضل أول فيلم وثائقي طويل في الدورة الـ36 (8 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية"، تغيّر الزمن والوقت الذي يمرّ، والمشاعر التي تتحوّل، والتساؤلات عن الانتماء: "لم أكن مرتاحاً في سورية، ولا هنا مرتاح. المكان ليس الحلّ إذاً"، يعترف ياسر وهو في البيت في فترة كورونا، بشيءٍ من استسلام غير موجود لدى الجيل القديم. يُساهم الأب في تأكيد ما يلاحظه المُشاهد: صُوَر كلّها حزن وعتمة وغابة. ينتقد حركة ابنه: "فيها ملل وضياع"، وهذا الصوت الضجران، لا يعرف ما يريد. يسمع كلمة والده فيُصوّر صورة أو اثنتين مُضاءتين. لكنْ، كأنّ الابن في المكان السيئ.