مقاربات فلسطينية لأرشيف صهيوني: عن فبركة إسرائيل معمارياً

16 مايو 2023
مساحة لإعمال المخيال حول الماهية المتوقعة للحداثة (العربي الجديد)
+ الخط -

انبرى خمسة وأربعون فنّاناً ومخرجاً وكاتباً وأكاديمياً فلسطينياً وعربياً وعالميّاً للتصدّي لمشروع "فبركة هوية المشروع الاستعماري الإسرائيلي" بخاصة في ما يسمى "مرحلة تأسيس الدولة" من خلال أعمال فنيّة تتبّع مسيرة توظيف الممارسات والمفاهيم العمرانية في صناعة هويّة "آنيّة" لهذه "الدولة" التي أنشئت على أنقاض حيوات الفلسطينيين ومنازلهم وأراضيهم.
في قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان بمدينة رام الله، تآلفت كلّ أعمال هؤلاء، في معرض "الحداثة الآنية: عن فبركة إسرائيل معمارياً"، ليقدّم كلّ منهم قراءته الخاصة في التعاطي مع هذا الأرشيف الذي سوّقته الآلة الإعلامية والسياسية الصهيونية باعتبارها صورة "إسرائيل" الحديثة في السنوات الأولى ما بعد إقامتها "دولتها" على أنقاض فلسطين، أو بعد سلب ونهب كل ما كان يملكه أصحاب الأرض الأصليون، ونسبه إلى المحتل، أو تشويهه تحت ادعاء "الحداثة".
هذه "الحداثة" شكّلت، حسب الفنان يزيد عناني، قيّم المعرض، "حالة قطع عن التاريخ والتراث، نائية بنفسها عن الموروث الحضاري والثقافي، وبالتالي شكّل تزامن المد المعماري الحداثي في الغرب، ووضع أساسات الدولة الصهيونية، فرصة غير مسبوقة لبناء هويّة لحظية، فورية وسريعة لهذه الدولة، ففي ماكينة الإنتاج الحداثية هذه، تغدو المعرفة المتراكمة على الأرض وأدواتها غير ذات قيمة، ويصبح الموروث الشعبي بعماراته وطبيعته لا مكان له، ويصير تغريب ثقافة وتاريخ الشعب الفلسطيني، الموجود على الأرض، أمراً مُبرراً".
المعرض الذي ينتظم بالتزامن مع الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني، اتكأ، حسب عناني، على مقاربات فلسطينية لأرشيف صهيوني متخم بالصور، ساهم من بين مشاريع أخرى في استعمار فلسطين، قُدمت للمشاركين في المعرض بعد حذف النصوص المضللة لهذه الصور الواردة في كتاب "موضوع الصهيونية: عمارة إسرائيل" لمؤلفه تسفي إفرات وصدر عام 2018، بهدف إعادة تأويل لهذا الأرشيف من قبل كلّ واحد منهم، وخلق رواية جديدة حول الأرشيف لا يكون أساسها صهيونياً.
ينقسم المعرض الذي يتواصل حتى 18 نوفمبر/تشرين الثاني إلى قسمين أو منطقتين، الأولى أرشيفية تعكس مضمون الأرشيف بقالب عسكري يتماهى مع العقلية الصهيونية، وفي المنطقة الأخرى، التي تتوزع حول المساحات الأرشيفية من كل الجوانب، تبرز أعمال الفنانين من تشكيليّين ومحترفي فنون بصريّة ومخرجين وكتاب وأكاديميين، قاموا من خلالها بإعادة تفكيك وتأويل ذلك التاريخ المفبرك، ليشكل تركيبه هذا رحلة متواصلة ما بين الأرشيف الكاذب وما بين الأعمال الفنية التي تحاول بصرياً، وبتكوينات متعددة، كشف زيفه.
يشكّل المعرض بأعماله مساحة لإعمال المخيال حول الماهية المتوقعة للحداثة المدينية الفلسطينية، لو لم يعمد الاحتلال إلى محوها وسرقتها وتزييفها منذ احتلال عام 1948، وما رافقه من أعمال قتل لكل ما هو فلسطيني، ومن بينها العمل الموسوم بـ"أجزاء من العمارة الفلسطينية" لكلّ من الروائي اللبناني إلياس خوري وسيسيليا بروكولي. يقدم عمل خوري وبروكولي كلاً من الكولاج والتركيب لتقديم سرديّة مختلفة عبر تجميع الصورالمجزأة من مختلف الفترات التاريخية والأماكن. يكتبان: "باستخدام الكولاج، نحاول إنشاء صورة كاملة، نجمع فيها بين صور القرى قبل التدمير، والأنقاض الحاليّة، والهندسة المعمارية العشوائية للاستدلال على أثر الهندسة المعمارية الإسرائيلية في تفتيت المشهد الطبيعي والعمارة للفلسطينيين. من خلال عملية الخلط، وإعادة التخيّل والتجاور هذه، يهدف الكولاج إلى توضيح مساهمة الهندسة المعمارية في فهم واقعنا المعيش".
وثمّة أعمال لا بد أن نتوقف عندها، وإن كان كلّ عمل يحتاج إلى تأمل لأكثر من مرّة، وتشريح بصري ضمن إعمال الحواس الخمس وما بعدها، في محاولات التماهي والتأويل، ومنها، مثالاً لا حصراً "خريطة بيضاء" للفنانة ميرنا بامية، وهو عمل فيديو تركيبي، عبارة عن خريطة فارغة تماماً إلا من بعض الإحداثيات السماوية الموضوعة من قبل منتجها، بحيث ينقلنا من الرؤية الكاملة إلى الضبابيّة الكاملة، وهي الحالة التي يعيشها الفلسطيني منذ سنوات أو عقود على أكثر من مستوى، ومن ثم تتحول لمساحة فارغة تعبّر عن ابتلاع الحدود والتقسيمات، وهي استعارة لجميع الخرائط التي رافقت الاتفاقيات السلمية منها والاستسلامية.
وفي "متسبي المريخ" تنقلنا لبنى الأعرج في "ثلاثية فوتومونتاج" إلى عام 2077، بحيث يشهد العالم أحداثاً مروّعة، تسببت خلالها الكوارث الطبيعية في تحوّل النقب إلى خراب، قبل حدوث انفجار كبير من فوهة بركان "جرن الرمان"، وهو اسم متخيّل ومستعار من الرواية الشفهية التراثية الجمعية، بحيث تمّ تحذير المستعمرين الإحلاليّين من الكارثة عبر "العنزة السمراء الأم"، والوعل النوبيّ الأكبر، لكن الأمر كان متأخراً جداً، فقد "وقع المستعمرون الإحلاليون في شر أعمالهم".
وقام الفنّان بشار الحروب، في عمله "متحف في فاترينا"، بإعادة إنتاج فاترينا كانت موجودة في متحف إسرائيل، وتحديداً في قسم الآثار، وصُممت عام 1963، وتحوي منحونات من الفن العربي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، و"يبدو أنه تم استحضارها من أوروبا مع اليهود المهاجرين إلى فلسطين، حيث لا تمت هذه القطع بأي علاقة إلى تاريخ البلد المحتل وآثاره". جرى استبدال القطع المعروضة داخل الفاترينا بقطع جديدة جُمعت من أسواق الأشياء المستعلمة في الضفة الغربية، والتي تأتي في جلّها من المناطق المحتلة عام 1948، وهي في معظمها تصنف لمن لفظوها باعتبارها محض نفايات، والقطع التي جمعها الحروب من الخليل، ورام الله، ونابلس، لها دلالات مرتبطة غالباً بالأماكن التي هاجر منها اليهود إلى فلسطين، وغالبيتها حديث ومرتبط بتاريخ تأسيس هذا الكيان الذي ترافق تأسيسه مع تاريخ أيديولوجي اتكأ عليه.
وتهيمن على الأعمال فكرة ما بعد الحالي، فتقرأ الأرشيف بعين المستقبل والتخيّل، وهذا ما كان واضحاً في وصوفات مجموعة كبيرة من الأعمال التي استخدمت مفردات استشرافية بشكل مباشر، من قبيل "ترقب محتمل لمستقبله"، "يحكم الخيال هذه اللعبة"، وما دون البنية التحتية للخيال"، وأداة لإنتاج واقع خيالي"، و"خزعة جيولوجية مستقبلية متخيلة من هذه الأرض"، وغيرها.

وكانت المديرة العامة لمؤسسة عبد المحسن القطان، فداء توما، ربطت ما بين المعرض وما بين العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والحصار المتواصل عليه منذ ستة عشر عاماً، لافتة إلى أنه يأتي على وقع اقتحامات متكررة لقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدن وبلدات ومخيمات في الضفة الغربية، وخاصة في نابلس وجنين، في سياسة ترمي لمحاولة تقطيع أوصالنا وقمع أصواتنا، ما يؤكد أن نكبة الشعب الفلسطيني فعل يتواصل منذ خمسة وسبعين عاماً، مشددة على أنه "في ظل هذه المحاولات المستميتة لمحو وجودنا، يأتي هذا المعرض ليستكشف آلية أخرى من آليات محو الهوية الفلسطينية على هذه الأرض، أرضنا، حيث يستخدم أرشيفياً يوثق بناء هوية دولة الاحتلال المعمارية، وموضعتها كجزء من حركة الحداثة العالمية، ليقّدمها كجسم طبيعي من المنظور الغربي، وهو أرشيف يصرف النظر عمّا تم محوه من وجودنا وعمراننا وحضارتنا".

سينما ودراما
التحديثات الحية

في سياق ذلك، يقدم المشاركون في المعرض إعادة قراءة نقدية لأرشيفات المحو هذه، "لنقدّم معاً سردية مُغايرة لما أُرّخ له في رواية الاحتلال"، تضيف توما، مؤكدة: "نحن هنا أمام تجربة لتفكيك أرشيف أسّس لرواية بيضاء تمت فبركة هويتها باستخدام العمارة والتخطيط، بالإضافة إلى إعادة سرد روايتنا التي كنّا ومازلنا نعمل على عرض واسترداد أرشيفاتها المسروقة"، خاتمة أن "المشروع الحداثي لم يكن حكراً على دولة الاحتلال التي وظفته استعمارياً، وبهدف قطع مشروع حداثتنا الخاص، عبر تدمير مدننا وقرانا، فكلّ مرّة أزور فيها غزة، أرى نفسي أمام مدينة حملت مشروع حداثة مديني فلسطيني ما زالت عناصره قائمة إلى يومنا هذا"، متخيّلة كمهندسة معماريّة "ماذا كان سيكون شكل هذا المشروع لولا الاحتلال".

المساهمون