يقدّم موقع "شركة ميتافورا للإنتاج الفني"، كمنتج مشارك في إنتاج فيلم "بيت في القدس"، لمحة مختصرة عنه: "بعد وفاة أم الطفلة ريبيكا، ينتقل والدها اليهودي البريطاني من إنكلترا إلى القدس، آملاً أنْ تكون هذه البداية الحياتية الجديدة بادرة شفاء من الماضي المؤلم لابنته. لكنْ، عند استقرارهما في منزل قديم في القدس الغربية، تُصادف ريبيكا شبح رشا، فتاة فلسطينية بعمرها نفسه، انفصلت عن عائلتها عام 1948".
منذ شارة البداية، يرتسم اسم الفيلم على بوابة تحمل معالم البيت، ونقوش أهل الدار. في طريق المستوطنين الجدد إلى بيتٍ في القدس، تسابق سيارة الأجرة ظلال الأشجار، وتلتهم ضوء القمر، كأنّ الطريق ينقل المُشاهد من رحلة إلى أخرى، ومن عالمٍ إلى آخر، ليقطع أكثر من سبعين عاماً من الاحتلال في لحظة. أسوار القدس تطلّ بكلّ بهائها، لتخبرنا جغرافية المكان وأين أصبحنا. لكنّها تنعكس غربةَ وقلق اللامألوف في عيني ريبيكا الصغيرة. يأتي صوت الأب هامساً مبحوحاً، كلصّ لا يريد إيقاظ المكان، ولا استفزاز ما بقي من التاريخ. ولا يريد لماكينة جدّاتنا أنْ تبوح بأسرار من طردوا أمام طفلته.
على صوت غرابٍ، يوقظ أسطورة الشؤم، يبدأ "بيت في القدس" بنبش التاريخ، بعيون القادمين الجدد. تستفزّه الوجوه الجديدة، فيخرج من مخزون الحكايات وسرديات الأوائل، ليُخبر عمّا حصل، ويسرد الرواية، ويعلن لحظة الصراع بين الصدق والكذب، وبين الحقيقة والوهم، وبين الخيال والواقع، بعيني طفلة لم تُعمها الأيديولوجيا، ولا خرافات المحتل. يأتي التاريخ متلبساً فضول طفلةٍ تصالحت مع نفسها، وأطلقت العنان لخيالها، كي يجيب عن أسئلة لحظةٍ ليست خيارها. لم يمنع التاريخ كلّ الأسلاك الشائكة، ولا الحواجز، من أنْ تتسرّب وترشح من مسامات الأرض، مع كلّ خطوة في جغرافيا معجونة بالتاريخ، وتاريخ لا يملُّ القول عن الجغرافيا. طفلة تستحضر ماضيها في لحظة الغياب والاغتراب، مع أمٍ، تكون الوطن، حيث ولدت وعاشت. صوت وصورة أمها البعيدة تسكنها، وتربطها وجدانياً بالوطن الذي غادرته.
يأتي التاريخ نقشاً على جدارٍ في زاويةٍ مهملةٍ، أو على لعبةٍ عروسة، متأبّطاً أكثر من سبعين عاماً من رحلة اللجوء ومرارة النكبة. ومهما حاول المستوطنون تجاهله، ورميه بعيداً وإخفاءه، سيخرج لأنّه فكرة، ونسيج من الذكرى والأحلام، محمولة في الهواء، وعلى أرصفة الطريق، وفي ما بقي من أنفاس عالقة في مسامات الجدران. يخرج التاريخ من الحكايات بريئاً كبراءة الأطفال، وصافياً كنيّتهم، وشفافاً كأفكارهم، وصادقاً كحبّهم. لا يراه الكبار، ممن تلوّثت أفكارهم بالأيديولوجيا الصهيونية، التي قلبت الحقيقة، وشوّهت المنطق.
ومهما سدّوا منافذ الأبواب على التاريخ، ومهما غطّوا الحقيقة بغبار الحقد والعنصرية، سيأتي من ملامح الناس بسمرتهم، وبالنقوش على الأرض والجدران.
في الفيلم، تعشّش حياة من طردوا من ديارهم في كلّ الزوايا، وتتعربش على صبّار الحاكورة، وترتسم في حواري القدس القديمة، وعلى الأثواب المعلّقة. تشمّ رائحتهم مع الزعتر والميرمية وعبق البهارات، معروضةً على أرصفة لا تزال تحفظ أقدام أهلها، وتحت قناطر لا تزال تحفظ ظلال ساكنيها.
عندما تنكسر المرايا، وتغيب الملامح، من ينقذ الصورة الأصلية، غير البراءة الأولى، خارج معادلات موازين القوى وسياسات اللعب على المصالح؟ هذا نراه بعيني ريبيكا، التي غادرت الجغرافيا واحتلّها التاريخ. هذا نحسّه بعيني رشا، الناعمة كنسمة، عندما تطرق رأسها مطرقة الرواية الزائفة للتاريخ، وهي تتبعثر فوق شفاه المستوطنين، فلم يكن أمامها، هي المحاصرة، إلا أنْ تكسر كؤوس الخمر، كي تخمد النشوة في رؤوس المزوّرين.
العلاقة النسائية الجديدة للمستوطن انعكاسٌ لعلاقته بالأرض الجديدة، بعد أنْ نسي حبيبته الأولى، وطنه الأول. خيانة للحبّ الأول للأم، من وجهة نظر الطفلة ريبيكا، التي تستفرغ أمعاءها في لحظة قرف حتى النخاع.
يركّز الفيلم على الرموز، ويستحضرها في كلّ مناسبة. ففي طريق ريبيكا إلى بيت لحم، كلّ الشواهد وعلامات الطريق عربية: سور القدس يقف شامخاً ليروي حكاية التاريخ بعينيها، ويرمي بأسئلته من خلال انعكاس الضوء على ملامحها؛ رموز الاحتلال، من كاميرات مراقبة إلى سور الفصل العنصري، تقف شاهدةً أمام براءة اللحظة، وعفوية الإحساس، وبساطة المنطق، لتعلن المفارقة بين الاحتلال وقسوة حواجزه الحديدية، وموسيقى الشبابة، وحنين يوجع القلب في أسواق بيت لحم، التي تتزيّن بالمطرّزات، وكلّ قطبة فيها تربط أطراف الوطن مع بيوت المخيم، حيث ريبيكا الطفلة هناك، بحسّها الفطري، تنادي التاريخ، وتستصرخ الحقيقة، وتجسد العناق بين اللاجئ وسردية النكبة.
يُطرد الجسد، لكنّ الروح تبقى في القدس، شاهدةً على الحقّ والحقيقة. ومع صوت الغراب، يتعملق التاريخ ليكنس زيف الأمر الواقع، وسردية الاحتلال، وتنصهر الرموز. ريبيكا، ورشا الطفلة، ورشا المسنّة، بعد أنْ أكل اللجوء عمرها. يتّحد التاريخ مع أصحابه، وتقصّ كلّ قطبة في اللعبة، وكلّ صورة في الفيلم، حكاية أم وأخت وأخ وأب، لا يزالون يحتفظون بغصنٍ من تينة الدار، ويرسمون درب العودة من كلّ جغرافيا الشتات واللجوء.
كلّ تلك الأفكار والصُّور، التي تداعت على الشاشة في "بيت في القدس"، جاءت من فكرة مفاجئة وبسيطة، كتبها الأخوان رامي ومؤيد عليان، محمولةً على إبداع طاقمٍ فني، وممثلين أعطوا الأدوار حقّها بإدارة المخرج مؤيد، بتسلسلٍ منطقي، تراكمه الأحداث بلا افتعال، وتتحدث فيه تعابير الوجوه أكثر من الشفاه، متناغمةً مع إضاءة تكشف المعنى، وموسيقى تشفّ عن الموقف، وتضيف إلى الإحساس عمقاً، ليكشف الفيلم السردية الفلسطينية، ليس بعيون الآخرين فقط، بل بلغته الإنكليزية، وبلغةٍ آمنة من حيث الأسلوب، يجاهر بها أمام العدو قبل الصديق، بلا شعارات رنانة، ولا مقولات مسبقة.