فيلم "رجل السكاكر"... بينما يتجوّل الرسّام بين زوّار معرضه

17 سبتمبر 2022
يُقدّم "رجل السكاكر" نموذجاً لتداخل فَنَّيْ الرسم والسينما (IMDb)
+ الخط -

عرض "رجل السكاكر" (Candyman) لنيا داكوستا كيف ورثت الكاميرا حكايات خيال الظلّ والجداريات وعصرنتهما. الفيلم بحثٌ عن الماضي بين جدران الطفولة، في حيّ فقير للسود في شيكاغو. فيلمٌ نضاليّ بطريقة رمزية عميقة، مُفيدٌ لتعلّم اللغة البصرية. مرّ الزمن. صار ابن الغيتو فناناً يسكن مركز المدينة العملاقة (شيكاغو) ويمارس الرسم. يرسم انطلاقاً من ذاكرته، وعندما يبِسَت، سَقَاها من معاينة الموديلات. يلتقط صوراً من موقع الأحداث، ليجعلها مصدرَ إلهامٍ للوحاته. كانت الطفولة ولا تزال مصدر إلهام للمبدعين. يرجع الرسّام، الذي يعاني شحّ الإلهام، إلى حيّه، ليستلهم مواضيعه من ماضي طفولته في غيتو للسود، منتصف سبعينيات القرن العشرين.

هناك عمارات، الشقق فيها أقفاص، تعامل الشرطة سكّانها بعنف. يُنسى مقتل شاب أسود بسرعة. لكنْ، إذا قُتلت امرأة بيضاء، تبقى القصة حيّة وقتاً طويلاً. لتسجيل هذه الفوارق العنصرية، يحاكي الأطفالُ علاقة حيّهم بالشرطة في ألعاب خيال الظل. الدراما في الشارع أشرس من الخيال. من ذلك العنف، وُلدت خرافة رجل السكاكر، الذي رُسمَت جداريات عنّه في مختلف أماكن الحي. تتغذّى الكوابيس من الصُوَر، ومن حكايات الماضي.

يُقدّم "رجل السكاكر" نموذجاً لتداخل فَنَّي الرسم والسينما. نُتابع مَشاهد عمارات مستطيلة، فيها نوافذ مربّعة صغيرة، يخرج منها ضوء خافت. اختارت نيا داكوستا تصويراً ليلياً، يجعل الضوء الخارج من النوافذ يبدو كبارقة أمل بعيدة. في هذا الصدد، يقول المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: "إذا ألقيتم نظرة على أفلام فيديريكو فيليني وأسلوبه الإخراجي، يمكنكم اكتشاف الرسّام القابع خلف المخرج". يتجلّى هذا بوضوح في فيلم داكوستا. فبموازاة تقدّم بحثه عمّا جرى في طفولته، حوّل الرسّام اللوحة إلى سلسلة لوحات عن موضوع واحد. لوحات تروي قصّة أميركية حيّة. هذه هي الوحدات الأولية للغة السينمائية، مُستعارة من التشكيل.

يقول المخرج والسيناريست كين دانسايغر: "اللقطة المنفردة، التي تُسجّل جزءاً غير مُكتمل من الحدث، هي الوحدة التي يجب أنْ يُبنى بها الفيلم، (ثمّ) تؤسّس المبدأ الرئيسي للمونتاج" ("تقنيات مونتاج السينما والفيديو، التاريخ والنظرية والممارسة"، ترجمة أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011، ص 34 ـ 36). يضيف: "يأتي المعنى الكلّي للقصة من مجموع اللقطات" المتتابعة، التي يصنعها ويركبها المخرج، ثم يتولّى الناقد تفكيكها. هذا تمرين في تفكيك بلاغة الخطاب البصري، في فيلمٍ مُحدّد: بينما يتجوّل الرسّام بين زوّار معرضه، يصيخ السمع، فيسمع تعليقاً يفيد أنّ في عمله الحالي نقلة عن عمله السابق. تأخذه الحماسة، ويمضي، فيسمع من يقول عنه إنّه يمارس رسماً حرفياً تقليدياً تعليمياً، لا يترك مجالاً أو فراغاً لتشتغل تفسيرات المشاهد. غضب الرسّام. فجأة، حدث خرقٌ وانزياح، فخرجت الأشباح من الصور واللوحات. كلّ لوحة فيها "صُوَر من ذوات الأرواح" خطرٌ. لم يبدأ الخوف من صُوَر البارحة.

كان للفيلم استهلالٌ بصري قوي، فيه عين سينمائية، وثقافة تشكيلية، وروابط بصرية قوية بين اللقطات. يصدر الرابط (الراكور) من جسد الممثل، الذي يتنقّل بين المباني، ويعزّز الكادراجُ الإحساسَ بوحدة المكان. تبني المخرجة الشابة، في مشهدين متواليين، توازياً بصرياً بين مشهد الإبداع ومشهد التلقّي.

يقف الرسّام أمام القماش المشدود وحيداً وحائراً، قبل أن يبدأ الرسم. تقف الناقدة البيضاء أمام اللوحة في المعرض، وخلفها مرآة، وتفحص وتُسجّل ملاحظاتها. يقترب منها الرسّام ليستطلع رأيها، وليُملي عليها تفسيره للّوحة التي رسمها. لدى نيا داكوستا وعيٌّ حادّ بالأسلوب. لذا، لا يطغى الموضوع على "رجل السكاكر". موقع الكاميرا مختلف في اللقطتين: الإبداع عمودي، والتلقي أفقي. تُضاعف المرايا دلالاتهما. بفضل هذا الوعي الحاد بالكادرات، توفّرت داكوستا على تغطية تصويرية وفّرت لمُنفّذة المونتاج، كاترين هَدِسْترُم، سُلّم لقطات متنوعة، تُقدّم استمرارية السرد. مهمة المونتاج، بحسب كين دانسايغر، "خلق الإحساس بالاستمرارية". استمرارية بصرية مؤثّرة.

يستطيع "رجل السكاكر" جعل طعم العالم طيباً، ويستطيع الفنان جعل الزمن يمرّ بشكل ممتع. يشعل شمعة ليحكي حكاية عجيبة. لا يمكن تصديق حكايات عجيبة، في زمنٍ جعلت الكهرباءُ كلَّ شيءٍ واضحاً. لذلك، تسترجع الكاميرا (تصوير جون غُولْسيريان) حكايات خيال الظل، الذي (خيال الظلّ) يعرضها بأقوى تعبير وبأقل الوسائل. لا يحتاج الظلّ إلى الألوان والمؤثّرات البصرية والصوتية ليكون مُعبّراً. يعيش الرسّام بين زوجته وصديقه، وهما لا يتفقان معه على شيء. هكذا يُثير اختلافُ طبائع الشخصيات توتّراً قوياً، شخصياً وإبداعياً. من الخطأ أنْ يخلط الرسّام بين الفن والشخص الذي يُواعده. العلاقات الأسرية مُضرّة بمنطق الفن.

فيلم نيا داكوستا رابع سلسلة "رجل السكاكر"، بعد نسخ 1992 (برنارد روز) و1995 (بِل كوندون) و1999 بعنوان "يوم الموتى" (توري ماير). فيلمٌ يؤرّخ عنفاً راسخاً بواسطة أسطورة. يحتاج البشر إلى الحكايات العجائبية المخيفة، حتّى في زمن هيمنة منطق الفيزياء النيوتونية، والبيولوجيا الداروينية. بمجرّد ذكره، ينبعث "رجل السكاكر" من الجراديّات، لكي يُخيف، أو ليحمي. صُور تخرج منها أشباح ملوّنة، لها وظيفة اجتماعية. عُثر على جثتين أمام لوحة. ذكر التلفزيون اسم الرسّام، فأسعده ذلك. حصل هذا لكثيرين. تنجح الحكاية بربط الأحداث الخاصة بقوانين كونية. "رجل السكاكر" خرافة، تُبرز أنّه تغيّر الكثير في شيكاغو، بين 1970 و2021. لكنْ، لم تتغيّر بعد طريقة تعامل الشرطة مع الشبان السود في الشوارع.

المساهمون