يشير محمود درويش، في مقابلة ضمن فيلم جان لوك غودار "موسيقانا" (2005)، إلى جدلية تتعلق بالقضية الفلسطينية والاهتمام العالمي فيها؛ إذ يقول: "نحن قليلو الحظ في أن تكون إسرائيل عدوّنا؛ لأنها تحظى بمؤيدين لا حدّ لهم في العالم، ونحن أيضاً محظوظون في أن تكون إسرائيل عدونا؛ لأنّ اليهود هم مركز اهتمام العالم، وهكذا ألحقتم بنا الهزيمة، ولكنكم في المقابل منحتمونا الشهرة". يطرح درويش سؤالاً على الصحافية الإسرائيلية: "هل تعلمين لماذا، نحن الفلسطينيين، مشهورون؟". ويتابع على الفور: "لأنكم أعداؤنا، أنتم وزارة دعايتنا؛ لأن العالم اهتم بكم أكثر مما اهتم بنا".
يتناول غودار في الفيلم، المهدى إلى المؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر، ما لم يُروَ من قصص الاستعمار، الذي يشير درويش إليه: "الحقيقة لها وجهان، وسمعنا أحياناً صوت الضحية الطروادية على لسان يوربيدس، أما أنا فأبحث عن شاعر طروادة لأن طروادة لم تروِ حكايتها. أنا ابن شعب غير معترف به بما فيه الكفاية لحد الآن، وأريد أن أتكلم باسم شاعر غائب، باسم شاعر طروادة".
في هذا العصر، أصبح بإمكان هذا الغائب، أو "ابن طروادة" على حدّ وصف درويش، أن يروي حكايته، ويسجلها بنفسه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كما باتت محاولات تهميشها على حساب تكريس الرواية المقابلة، واضحة لا تشوبها شائبة، فطمس الرواية صار جزءاً من سردية هذه الحرب. المعركة الافتراضية هي معركة سرديات، يستطيع وجهها الفلسطيني أن يسود تبعاً لمأساويته، مقابل ركاكة الرواية المقابلة التي تحاول بائسةً أن تسقط عن نفسها صفة الاعتداء.
من نافل القول إن الرواية الإسرائيلية لطالما غزت وسائل الإعلام الغربية، التي تتمتع بنفوذ أكبر وحيز انتشار أوسع، كما تماهت السلطات الرسمية في هذه الدول مع السردية الإسرائيلية وروجت لها، فأبقت رواية الضحيّة في الظلّ، ولا سيما إن كانت هذه الضحية تسعى إلى إثبات وجودها. يقول غودار في التعليق الصوتي على فيلم "موسيقانا": "من المذهل أنه لا يزال هناك ناجون"، والناجون في غزة ما زالوا يحاولون رواية قصصهم، على الرغم من لجمهم بفجاجة عبر قطع الإنترنت والاتصالات عنهم.
إلّا أنّ هناك أصواتاً تعالت من الخارج فوق الاتهامات الجاهزة التي تلصق بكل صوت مغاير، مثل معاداة السامية والعنصرية، تدين سياسة الدول الداعمة للمجازر الإسرائيلية، ومحاولات التعتيم عليها، عبر خلق سرديات لا يقبلها منطق، وذلك في ظل محاولات الناجين الفلسطينيين تسجيل صرخاتهم ومعاناتهم قبل أن يصبحوا في عداد الضحايا. هكذا، بدأت الطفلة المدللة، "إسرائيل"، تخسر التعاطف العالمي، إذ أصبحت تغطية الأحداث ليست حكراً على المؤسسات الإعلامية الكبيرة التي تحكم قبضتها على أوجه الحقيقة، وتتلاعب بصناعة بروباغاندا تخفي فيها أوجه الحدث.
انطلقت في عدد من دول العالم تظاهرات مؤيدة لفلسطين، على الرغم من الرقابة المشددة التي فرضتها السلطات لمنع التجمعات المنددة بالجرائم الإسرائيلية، واعتقال وتوقيف بعض المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في فرنسا وألمانيا، كما أطلقت الشرطة الفرنسية قنابل مسيلة للدموع على المتظاهرين، فيما أعلنت وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برافرمان، أنّ التلويح بالعلم الفلسطيني ليس قانونياً، في المقابل، انطلقت تظاهرات تؤيد إسرائيل، من دون أي حظر أو رقابة.
في الضفة الأخرى، تتقدم في أيرلندا واسكتلندا صفوف المدافعين عن فلسطين. الأمر ليس حديثاً، بل يعود إلى عقود، فليس من المستغرب رؤية علم فلسطين إلى جانب العلم الأيرلندي في دبلن. بالنسبة للكثير من الأيرلنديين، تعتبر إسرائيل أقرب إلى كيان استعماري استيطاني أنشأه النفوذ البريطاني بالقوة، ومصمم على فرض نفسه على السكان الأصليين. في عام 1980، دخلت أيرلندا التاريخ عندما أصبحت أول عضو في الاتحاد الأوروبي يدعو رسمياً إلى إنشاء دولة فلسطينية. وهي آخر دولة في الاتحاد الأوروبي تفتتح سفارة إسرائيلية (1993).
تتقدم أيرلندا واسكتلندا صفوف المدافعين عن فلسطين
في ما بعد، وعلى خلفية المجازر التي ترتكبها إسرائيل يومياً بعد عملية طوفان الأقصى التي انطلقت في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أدانت الحكومة الأيرلندية انتهاكات الاحتلال، فهب الرئيس مايكل هيغينز منتقداً تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين المؤيدة لإسرائيل، والتي بدورها لم تتردد في وضع العلم الإسرائيلي فوق مبنى المفوضية في بروكسل، في حين تعالت أصوات من داخل البرلمان الأيرلندي تدين المجازر الإسرائيلية، فشن النائب الأيرلندي مات كارثي هجوماً على التبريرات الغربية لجرائم إسرائيل، حين قال إن عبارة "إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها"، أصبحت الآن غطاء يتيح ارتكاب إبادة جماعية".
النائب في البرلمان الأيرلندي ريتشارد بويد باريت، أدان انتهاكات إسرائيل؛ إذ هاجم ما سماه "النفاق المطلق" وازدواجية المعايير التي ينتهجها الغرب في النظر إلى الجرائم ضد الإنسانية بقوله: "كيف يعامل الفلسطينيون كعرق أدنى ويمنع عنهم الماء والغذاء، ومع ذلك لا تسلط عقوبات على سياسة التمييز العنصري التي تمارسها إسرائيل؟".
أدانت زعيمة حزب شين فين الأيرلندي المعارض، ماري لو ماكدونالد، المعروفة بتأييدها لفلسطين، جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ووجدت أن الحل الإنساني الوحيد هو الوقف الفوري لإطلاق النار، وإيصال المساعدات لغزة بعد ضمان سلامة المعابر.
لا يقلّ النفس الداعم في اسكتلندا، حيث لا يتورّع المسؤولون عن توجيه انتقادات واضحة للاحتلال، فضلاً عن تنظيمهم تظاهرات شعبية داعمة لفلسطين، ما يدل على وجود بيئة حاضنة تؤيد القضية الفلسطينية.
في فرنسا، يذهب السياسي الآتي من أقصى اليسار وزعيم حزب "فرنسا الأبية"، جان-لوك ميلانشون، في اتجاه مخالف لسياسة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون في دفاعه المستميت عن إسرائيل، وهو الذي تساءل بعيد مجزرة مستشفى المعمداني في غزة: "هل من الصعب إدانة جرائم الحرب التي يرتكبها نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي)؟ هل من الصعب إدانة العنصرية التي تمنعنا من رؤية الفلسطيني أولاً كإنسان؟ أين أصحاب الضمائر الحية؟".
للناشطين أيضاً صوتهم الذي يجد سبيله إلى آذان العالم. يرى الصحافي والكاتب البلجيكي، بودوان لويس، أن إسرائيل تضرب بعرض الحائط مبادئ القوانين الدولية وحقوق الإنسان "بشكل يدعو للدهشة". ويتصدر الصحافي البريطاني أوين جونز لائحة المدافعين عن فلسطين، ولا سيما بعد أن أطل على تلفزيون بريطاني ليتحدث عن التمييز العنصري الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين. جونز شجب مراراً وتكراراً سياسة إسرائيل التي تحاول البحث عن أعذار لكي لا تلتزم ببروتوكولات الحرب، كما اعتبر التهجير القسري للفلسطينيين جريمة حرب، ووصف ما يحصل في غزة بأنه أشنع مذبحة في هذا العصر. يتساءل جونز عبر مقطع فيديو على "إنستغرام": "لماذا لا نسمي الأمور بمسمياتها؟ إسرائيل دولة فاسدة، أعلنت الحرب على الأمم المتحدة".
أما الكاتب الأميركي شون كينغ، فقد كرس صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وفضح الأعمال العدوانية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي بحق سكان قطاع غزة. نشر كينغ فيديو لجندي إسرائيلي سابق يدين انتهاكات الاحتلال بحق الفلسطينيين. المقطع بمثابة اعتراف على سياسة الاحتلال العسكرية: "شعرت أني إرهابي، ووظيفتي هي إرهاب الفلسطينيين، بإمكاني بفعل سطوتي العسكرية الاستيلاء على بيوت الفلسطينيين بعد أن أرمي بهم في الشارع".
وصف كينغ عبر حسابه على "إنستغرام" جيش الاحتلال بالبائس وعديم الصدق، وذلك على خلفية مقطع فيديو لفقه جنود الاحتلال، يشكرون فيه كينغ على تبرعه لهم بـ10 آلاف دولار، وذلك في محاولة منهم لتشويه صورته، على حدّ تعبيره. وهناك منشورات عدة على صفحاته توثق مجازر إسرائيل بحق الفلسطينيين، يتهم فيها أميركا بالتواطؤ مع الاحتلال على قتل أطفال فلسطين، بما وصفه بالمذبحة وحمام الدم.
بدوره، اتخذ البروفيسور والمصور الألماني، آدم برومبرغ، من صفحته الشخصية على "إنستغرام" منبراً يدعو من خلاله إلى تظاهرات سلمية من أجل فلسطين في برلين.
كما أعلنت صفحة Peoplesforumnyc عبر "إنستغرام" دعمها للقضية الفلسطينية، ونظمت تظاهرة بالتعاون مع حركة الشباب الفلسطيني وحركة العودة في مدينة واشنطن الأميركية. فيما أدان القائمون على صفحة Mena Heat السياسة الأميركية عبر محتوى ترفيهي لا يخلو من كوميديا سوداء، يستنكر تورط أميركا المباشر في ما يحصل في غزة.
وعلى معبر رفح، بين مصر وقطاع غزة، المنطقة التي سبق أن قتل فيها الجيش الإسرائيلي الناشطة الأميركية راشيل كوري، أحدثت الناشطة المصرية رحمة زين خرقاً في وسائل الإعلام الغربية، عبر توجيهها انتقادات لاذعة لمراسلة شبكة سي أن أن، كلاريسا وارد، بسبب التغطية الأميركية والغربية المضللة للحرب على غزة. وقالت رحمة في الفيديو الذي شهد انتشاراً كبيراً على منصات التواصل الاجتماعي: "إذا سمعتني حقاً فإنك ستستقيلين من القناة التي تعملين فيها. أين إنسانيتكم؟ بلدك أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل ليقتلوا الفلسطينيين ويذبحونهم، تخيلي الأطفال والرضع الذين يتعرضون لقصف نسمع صداه هنا؟".
والآن، في ظلّ محاولات كتم الأصوات الآتية من غزة ودفعها نحو الظلمة، تخترق أصوات بديلة من الدول التي اعتبرت نفسها وصية على إسرائيل، كل محاولات الإسكات القسري، وتكافح لإظهار ما تتعامى عنه آلة الإعلام الخاضعة للقوى الداعمة لإسرائيل.