سوق النبطية... الاحتلال يواصل محو الذكريات

17 أكتوبر 2024
تدمير سوق النطبية، 13 أكتوبر 2024 (عباس فقيه/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تدمير الذاكرة التراثية والاجتماعية: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف سوق النبطية التاريخي، الذي يعود تاريخه إلى 500 عام، في محاولة لمحو الإرث الثقافي والتاريخي للمدينة.

- الانتفاضات والمقاومة: النبطية كانت مركزاً للمقاومة ضد الاحتلال، بدءاً من الانتفاضة ضد الاستعمار الفرنسي في 1943، وكانت السوق الشهير مسرحاً للعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي.

- تأثير التدمير على المجتمع: تدمير معالم النبطية، مثل محل حلويات الديماسي، يُعتبر خسارة للذاكرة الجماعية، ومالك المحل يسعى لإعادة إعماره للحفاظ على التراث.

يسعى جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى تدمير الذاكرة التراثية والاجتماعية مع كل غارة يُلقي بها على القرى والمدن اللبنانية. كان لوقع الاستهداف الإسرائيلي الذي طال سوق النبطية (جنوبي لبنان) صدى مدوٍ، أيقظ ذاكرة أبناء المدينة، وكل من حطت رحاله في سوق الاثنين الشهير الذي يُقام أسبوعياً. 
يستعيد الشاب المغترب عباس الحاج أحمد من ذاكرة طفولته، إشكالاً سياسياً حصل في نزلة الديماسي خلال إحياء مراسم عاشوراء منذ عشرين عاماً، وبات ما حدث شعاراً يردّده أبناء النبطية: "في نزلة الديماسي تخانقوا الإخوان، وبيناتن علي طه وبسام سويدان، وقاموا المنسية وجرصونا بالنبطية".
يقول الحاج أحمد في حديث إلى "العربي الجديد" إن "الجزء الذي أحبه عند عودتي إلى لبنان جلوسي على كرسيّ في سوق النبطية من نزلة الديماسي وفلافل الأرناؤوط ومحلات جلول وسلوم". يكمل الحاج أحمد: "ضرب سوق النبطية التجاري يعادل ضرب الأصدقاء والعائلة. الشوارع التي قُصفت هي التي كونت شخصيتي، النبطية كانت تجمع بين المدينة والضيعة التي يتميز بها الجنوبيون".
ليست المرة الأولى التي يشهد فيها سوق النبطية عدواناً إسرائيلياً. تعرضت المدينة إلى القصف منذ عام 1978، واجتاحها العدو الإسرائيلي في عام 1982، وانسحب منها في عام 1985. وقصفت أيضاً  في حرب الأيام السبعة في يوليو/تموز من عام 1993، وعناقيد الغضب في إبريل/نيسان من عام 1996، وحرب تموز 2006.
يصف الباحث السياسي النبطاني، علي مزرعاني، في حديثه لـ"العربي الجديد" ما حصل في المدينة بأنه "يمثّل ثأراً لإسرائيل مع كل حرب في لبنان. فالمدينة كانت مركزاً للانتفاضات منذ الاستعمار الفرنسي". بالتواريخ، ينقل مزرعاني أبرز ما شهدته ساحة النبطية وسوقها: "في عام 1943، شهدت المدينة انتفاضة ضد الاحتلال الفرنسي في سوقها، وأُحرق العلم الفرنسي. كانت النبطية سباقة في المظاهرات المعادية المطالبة برحيل المستعمرين الفرنسي والإنكليزي، وكانت ساحة للتضامن ضد العدوان الإسرائيلي الذي طاول العالم العربي في عامي 1973 و1979".
في عام 1973، انطلقت من قلب المجمع التجاري للمدينة انتفاضة لمزارعي التبغ في لبنان استمرت ثلاثة أيام، استطاعت تأمين حقوق المزارعين في كل لبنان، وليس في الجنوب فقط، واستشهد اثنان خلال الانتفاضة برصاص السلطة اللبنانية، وفق مزرعاني.

 سوق النطبية (علي مزرعاني)
سوق النبطية قبل تدميره (علي مزرعاني)

الانتفاضة الشهيرة التي لا تزال تؤرق الاحتلال الإسرائيلي، ووثقها المخرج اللبناني الراحل برهان علوية في أحد أفلامه، هي انتفاضة عاشوراء في النبطية. شرارة الانتفاضة كانت عملية أقدم عليها الحزب الشيوعي: جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، حين حوّل المنتسبون لها مناسبة عاشوراء إلى فرصة نضال، لتمسي فعلاً موجهاً إلى الاحتلال.
يقول مزرعاني: "الانتفاضة أظهرت لحمة بين جميع الأحزاب اللبنانية المقاومة، فانطلقت مظاهراتهم من قلب السوق الشهير النابض بالحركة السياسية والاجتماعية. والسوق ليس عبارة عن حجارة وحسب، بل هو إرث لا يُمحى".
جميع الأحزاب شاركت بالعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهناك العديد من العمليات التي حدثت في قلب سوقها الشهير، وأغلقه الاحتلال عدة مرّات. لكن، هذه المرة، محت إسرائيل السوق.
مدينة النبطية عمرها 800 عام، وسوقها الشهير 500 عام، إذ أنشئ في عهد المماليك. بُني على الطراز الحجري القديم. وفي مطلع القرن العشرين، تحول السوق إلى مبان قرميدية. وكان يشتهر آنذاك بوجود "لوكاندا زهرة الجنوب". يشير مزرعاني إلى أنه أول فندق بني في الشارع، نظراً إلى المسافات التي يقطعها المواطنون لجلب حاجياتهم من المدينة للمكوث به، وقد دمّره الاحتلال في عام 1979. 
كانت شرارة ثورة 17 تشرين (أكتوبر 2019) حدثاً مفصلياً في مدينة النبطية، فأبناء المدينة ليسوا بعيدين عن المطالب الشعبية المحقة ضد السلطة السياسية وضد الفساد، وإعلاء صوت أبناء النبطية كان تحدياً جنوبياً مهماً بالرغم من محاولة محاصرة الحراك آنذاك.
في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول الكاتبة السياسية بادية فحص: "العدوان الإسرائيلي هدفه متعدد المستويات؛ إذ لا يضرب المنطقة عشوائياً، بل يضرب ضمن منهج، فلديه خطة إبادة متكاملة، تطاول في الوقت نفسه البشر والحجر والشجر، لذلك هو بضربة السوق قصد الإبادة المكانية لأنها تتضمن إبادة تراثية وتاريخية وثقافية وهتكاً للنسيج الاجتماعي".

التدمير الإسرائيلي قضى على معلم حلويات الديماسي الشهير في النبطية، المزروع في ذاكرة أهل النبطية، حتى أن الشارع الموجود فيه المحل أصبح يسمى بنزلة الديماسي.
يتحدث مالك المحل محمد الأمين لـ"العربي الجديد" عن تاريخه: "أهالي النبطية ينظرون إلى الديماسي مثلما ينظر أهالي بعلبك إلى قلعتهم. المحل أحد أقدم المعالم الموجودة في النبطية. وعندما يريدون الحديث عن الحنين يتكلمون عنه". يتابع الأمين: "في كل مرة يزور أهالي النبطية الديماسي يخبروننا أن أجدادهم وآباءهم كانوا يحضرون من المدرسة ليأكلوا الحلويات عند الديماسي المدلوقة". 
يشعر الأمين بالمسؤولية تجاه إعادة إعمار المحل رغم الخسارة المادية التي لا تقدر: "بعد تلقي خبر قصف المحل لمست التعاطف الناس وشعورهم بالحزن. كثيرون اتصلوا بي بهدف الاطمئنان. لم يعد الموضوع بالنسبة لي أمراً شخصياً، بل مسؤولية أمام الناس، في حال لم أعِد إعمار المحل عند انتهاء هذا العدوان، فأنا أشارك في محو هذا التراث وجعله يتلاشى من أذهان الناس مع الوقت".

 سوق النطبية (علي مزرعاني)
أحياء النبطية قبل العدوان الإسرائيلي (علي مزرعاني)

تدمير المحلات التجارية المتوارثة عن الآباء والأجداد، هو خسارة كبيرة معنوياً ومادياً. يعلق الأمين: "المحل توارثناه عن آبائنا وأجدادنا، حافظنا عليه وعلى الصنعة جيلاً بعد جيل. ونحاول أن يبقى رغم تعرضه إلى القصف مراراً طوال اعتداءات الاحتلال على لبنان: في أعوم 1982، و1993، و1996، و2006، لكنه رغم ذلك يبقى صامداً، وكنا نعود إليه في كل مرّة ونرمّمه. لكن هذه المرة كانت مختلفة، ذهبت جميع الذكريات، والجدران، والكتابات، والصور التي لا نملك غيرها".

المساهمون