لم تعهد الإنسانية من قبل حجماً كهذا ومدىً كهذا من التسارع. السرعة ووسائلها التي افتتحت القرن العشرين، فغيّرت مفهوم الزمن وطبيعة الوعي حياله، انقلبت تسارعاً أول القرن الحادي والعشرين. ذلك أن الارتقاء المعرفي، من الآلي إلى الرقمي، قد نقل السرعة من رتابة الاطراد ومسار التطوّر الخطّي، إلى الوثبات التكنولوجيّة والخروق في المفاهيم والسلوكيات الاجتماعية التي باتت تنشأ وفقها.
لعل تلك الحال هي في العمق ما سبّب مأزق نجم موسيقى الراب الكندي دريك (Drake)، ابن السادسة والثلاثين عاماً. فالرجل قد توافرت له كل عوامل البروز أسطورةً من بين أساطير الموسيقى الجماهيرية (Pop)، الذين عرفتهم العقود الثلاثة الأخيرة من القرن السابق، مثل مايكل جاكسون ومادونا؛ إذ تتوافر لديه القدرة على التأثير الأسلوبي في موسيقى زمنه.
وعليه، قيادة الذائقة العامة لدى كل من المُنتج والمتلقي، علاوة على حذاقته بطرح شخصه علامة تجارية، فتنبثق منه تقليعة (ترند)، تؤدي بأبناء جيله إلى استنساخ صورته وهيئته في المسلك والملبس وتمظهره من خلال نمطٍ من الفحولة "الكوول"، حتى استحال عُشّاقه من الشباب في شوارع المدن والبلدات، بستراتهم الرياضية الفضفاضة والمزركشة ولحاهم المُشذّبة، دُرَيْكات صغيرة تمشي على الأرض.
أما المأزق، فإنما يكمن في أنه لا يبدو قد بات في استطاعة دريك أن يتوسع زمنياً، فيضمّ إلى مجال تأثيره ولو قليلاً من الجيل الصاعد، كما فعل نجوم الماضي القريب، فضلاً عن البعيد، كجون لينون نجم فرقة "ذا بيتلز"، أو كيرت كوبين نجم فرقة "نيرفانا". قد يعود ذلك إلى أن التسارع والتقادم، وبالنتيجة، العجز عن المواكبة الذي بات سمة العصر، بات يوسّع من الهوة الثقافية والإجتماعية بين جيل والجيل الذي يليه، بحيث أصبح من شبه المستحيل على الفنان الجماهيري أن يُطيل من أمد جماهيريته، لا من حيث أسلوبه في التعبير عن ذاته ضمن الموسيقى، ولا في طريقته في التعبير عنها ضمن الفضاء العام.
لعل من علامات المأزق الذي يعيشه، أن أعلن دريك طرح ألبومٍ أول الشهر الحالي، بعنوان For All the Dogs، يبدو أنه الأخير لهذا العام، باعتبار أن الإصدار أعقبته أنباء تُفيد بأن الفنان يعتزم "الابتعاد عن الساحة الموسيقية"، نقلاً عن مقابلة كان قد أجراها معه أخيراً فنان الراب والمنتج ليل ياتي، باح دريك خلالها بأنه باتت تتبادر إلى ذهنه فكرة الخروج الكيّس والسلس من المشهد الغنائي.
الحق أن ألبومه الأخير، إن كان المُقدّر له أن يكون أخيراً، لعله يجيء خيرَ دليلٍ على الأسباب التي قادت دريك إلى التفكير في الاعتزال؛ إذ تبدو تراكاته الثلاثة والعشرون، العديدة وقصيرة الأمد في آن واحد، كما لو أنها بمثابة مساعٍ لمد الجسور نحو ذائقة جديدة تبعاً لإحساس بالتخلّف عنها. ابتداءً بمقدمة التراك الأول المعنون Virginia Beach، التي تطرح ألواناً صوتية إلكترونية، ذات طبيعة رقمية، باتت ترسم المشهد السمعي المعاصر. Amen التراك الثاني يعود بدريك لتقليد أرساه، بالتعاون الثنائي مع أقرانه الموسيقيين، فيشاركه فيه المغني وكاتب الأغاني تيزو تاتشوداون. وفيه يستخدم لصق الكولاج الرائج حالياً ما بين الموسيقى وأصوات البيئة الخارجية.
التراك الثاني عشر، Screw The World، وإن ظل ضمن نطاق اختبار التصاميم الصوتية الإلكترونية العصرية، إلا أنه يتناهى لصدى أول الألفية، مُقتبِساً فرق المرحلة الخلّاقة في حينها، كفرقة الهيب هوب البريطانية "غوريلاز". في All The Parties، بالتعاون مع المغني تشيف كيف، تُضاف إلى أدوات الإنتاج أساليب قصّ ولصق مُباغتين، تُحاكي صنع مقاطع فيديو يوتيوب التي تُنتج بطريقة DIY، أي "اصنعها بنفسك". في تراك رقم 18، وعنوانه BBL Love، يُقدّم دريك نفسه كما عرفه جمهوره، من خلال طريقته في ترنيم الراب المنظوم، وتكرار الجمل والمفردات، مصحوبة بإيقاعات موسيقى السول، من أكوردات الغيتار الكهربائي وغناء الآر أند بي.
في التراك التالي Gently، بالتشارك مع البورتو ريكي باد باني، مغني الراب اللاتيني المصطلح عليه Trap، يبدو دريك كمن يحاول أن يوسع من دائرة مستمعيه، وذلك بإضافة أغنية بوب لاتينية خالصة، ليس فقط لجهة الأسلوب والمعالجة وحسب، بل اللغة أيضاً، حيث الراب منظوم بالإسبانية. أما التراك الأخير المعنون، Polar Opposites، فيمكن اعتباره عُصارةً لما يمكن وصْفُها بشعرية مُعلّبة، لم تُحدَث بالمعنى العميق، بل بالصقل الإنتاجي والصناعة الموسيقية، لكل من الصوت واللحن والكلمة.
حتى لو صدقت نياته حيال اعتزاله، فمن غير المُرجّح أن يترك دريك الصناعة الفنية نهائياً. فهو ليس بنجم جماهيري صانع ترند وحسب، بل هو أيضاً، وكغيره من نجوم اليوم، مؤسسة إنتاجية قائمة بذاتها، بمقدوره أن يصنع نجوماً جُدداً، ويُنتج أعمالهم، ويُسوّقها لهم. في المقابل، ستبقى احتمالات عودته واردة، إذ يظلّ إغراء العوائد التي تدرّها إعادة بعث النجوم، سواء لشخوصهم أو لمُديري أعمالهم ومُنتجيهم، من العوامل التي تجعل من عنوان العودة، Come Back ماثلاً في الأفق.
أما إذا صحّت التلميحات واعتزل قريباً، فإنه بذلك لم يعمّر طويلاً بالقياس إلى معايير الأمس. أما وفقاً لمعايير اليوم، فقد قضى في الواجهة أزيَد من عقد. ألا وأن باتت الذائقة تتغير، والهوة الجيلية تتّسع بلمح البصر، بفعل تلاحق الطفرات التكنولوجية وبحكم تسارع الزمن، فلم يعد بإمكان من أذاب الحدود يوماً بين نظم الراب وغناء الآرأند بي أن يُمَثِّل بفحولته الكوول، قيم السيولة الجنسية والعبور الجندري التي بات جيل زي في الغرب يتمثّل بها.
ولا عادت مينيماليته في الأداء، واختياره للأزياء يجذبان الكثير من شبان الجيل الجديد المُقيم في عوالم الإنترنت، لا في أحياء المدن الصناعية الكبرى. ها وقد شارف دريك، صانع الترند، على أعتاب منتصف العمر، وهو لم يزل يُغنّي الراب. بالنظر إلى سياق الوقت الراهن، إنما ذلك دليلٌ على طول العمر.