منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، صار الإسرائيليون مهووسين بالأخبار، ملتصقين بالشاشات، يتابعون إعلاماً شهد صعوداً قوياً لوجهة نظر اليمين المتطرف، بدعم من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو.
وعُيّن أنصار اليمين المتطرف معلِّقين وصحافيين، ما حرّف النقاش حول العدوان، وقوّى خطاب اليمين المتطرف، وقلّل الوعي بالوضع الحقيقي في قطاع غزة. آثار هذا الأمر واضحة في الإعلام الإسرائيلي.
صرّح محلل شؤون العالم العربي في القناة 13، تسفي يحزكيلي، الذي يعيش في مستوطنة بات عين اليمينية المتطرفة، بأنه كان ينبغي قتل 100 ألف فلسطيني بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول مباشرة. وألقى المراسل السياسي الإسرائيلي الأكثر تأثيراً، أميت سيغال، باللوم على الانسحاب الإسرائيلي من غزة لحدوث عملية طوفان الأقصى، فيما غرّد مراسل صحيفة "يسرائيل هيوم"، يهودا شليزنغر، مؤيداً "الهجرة الطوعية" حتى لا ينشئ الفلسطينيون "جيلاً نازياً آخر". ولم تتردد القناة 14 في عرض فيديو لتظاهرة ضخمة زعمت أنها مؤيدة للتعديلات القضائية التي طرحتها حكومة نتنياهو، قبل أن يتبين أن الفيديو كان لتظاهرة نظمتها القوى التي تحتج على التعديلات القضائية، وليست المؤيدة لها.
يشرح الكاتب والمساهم في صحيفة هآرتس، إيتان نيشين، أن أحد الأسباب المهمة لنجاح المستوطنين في السيطرة على الإعلام الإسرائيلي هو جهد مستمر بالتعاون مع نتنياهو، لاختراق وسائل الإعلام الرئيسية، وإنشاء وسائل إعلام مخصصة لأهداف المستوطنين، وبالتالي إعادة تشكيل الخطاب السياسي الإسرائيلي.
ويشرح نيشين، في مقال رأي نشرته "ذا غارديان"، أن حركة الاستيطان، في سنواتها الأولى، لم تكن تثق بوسائل الإعلام الرئيسية، ولم تتعامل معها بشكل وثيق، ثم قرّر المستوطنون أنه لم يعد كافياً مجرد الاستيلاء على تل آخر وتوسيع مستوطناتهم المادية، بل لضمان مستقبل الحركة، كان عليهم أن "يستقروا في قلوب" الإسرائيليين. ومن خلال احتضان وسائل الإعلام الرئيسية، تمكّن اليمين المتطرّف من فرض سردية المستوطنين ودمج أيديولوجية الاستيطان في الروح الإسرائيلية. ويقول: "لحسن حظهم وجدوا في نتنياهو شريكاً راغباً". ويوضح نيشين أن نتنياهو لطالما فهم قوة وسائل الإعلام الشعبية واستخدمها.
وكتب الصحافي جوشوا ليفر أن نتنياهو كان أول رئيس وزراء "تلفزيوني حقيقي لإسرائيل. لقد أخذ دروساً في التمثيل لتحسين أدائه العام. وبعد أن خسر الانتخابات أمام إيهود باراك عام 1999، سمعه الصحافيون يقول: عندما أعود، سيكون لدي منبر إعلامي خاص بي". وانتهى به الأمر فعلاً إلى إنشاء منبرين: صحيفة يسرائيل هيوم المجانية التي انطلقت في 2007 بتمويل من شيلدون أديلسون، أحد كبار المانحين للحزب الجمهوري الأميركي، والقناة 14 التي تأسّست عام 2014. وغيّرت الوسيلتان المشهد الإعلامي في إسرائيل.
وفي السنوات التي تَلَت ذلك، تناسل عدد كبير من منابر اليمين المتطرف الجديدة. القناة 14، التي لا تتوانى عن بثّ أخبار كاذبة، تحظى بدعم رسمي كبير، وهي وسيلة للترويج للخطاب الدعائي والأيديولوجي لحكومة اليمين المتطرف التي تدير دفة الأمور في تل أبيب. وانطلقت القناة 14 في الأصل كقناة تقدم برامج "يهودية"، ثم قفزت إلى بث برامج الرأي. غُرّمت القناة بسبب المحتوى الذي يتجاوز صلاحياتها المرخصة، لكن تدخّل حكومة نتنياهو سمح لها بإدراج الأخبار في برامجها. وأصبحت القناة منذ ذلك الحين منصة مهمة تبث دعاية اليمين المتطرف بشكل لم يسبق لها مثيل في التلفزيون الإسرائيلي. والقناة 14 متطرّفة لدرجة أنها تعرض على شاشتها عدّاداً يسجل عدد المباني التي هُدمت في غزة، وعدد الجرحى الفلسطينيين، وعدد "الإرهابيين القتلى"، إذ تصنّف جميع الضحايا على أنهم "إرهابيون". والقناة متطرّفة لدرجة أن جنوب أفريقيا استشهدت بصحافيين منها هتفوا لعمليات القتل الجماعي في دعواها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
وسبق أن أعلنت شركتا كوكا كولا وشتراوس وقف نشر إعلاناتهما التجارية لدى القناة، فسارع حينها ينون ماغال، أحد أبرز مقدمي البرامج الحوارية فيها، إلى نشر معلومات كاذبة تطعن بجودة ما تنتجانه، مفبركاً نتائج أبحاث علمية.
وفقاً لمكتب الإحصاء في إسرائيل، يحصل ما يقرب من نصف الإسرائيليين على أخبارهم من القنوات التلفزيونية، واحدة عامة وقنوات خاصة عدة بينها القناة 14.
وتنقل "ذا غارديان" عن مديرة حرية الصحافة في نقابة الصحافيين في إسرائيل، عنات ساراغوستي، أن التلفزيون كان له تأثير خاص في تشكيل الرأي العام الإسرائيلي بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذها المقاومون الفلسطينيون في 7 أكتوبر، لأن "الناس يتابعون البث الإخباري المباشر يومياً بالتزام يذكرنا بعصر ما قبل العصر الرقمي".
وتنقل عن الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي، رفيف دراكر، أن الفلسطينيين لم يُمنحوا أي وقت تقريباً على شاشات الإعلام الإسرائيلي، بالرغم من اشتداد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وهيمنة معاناة المدنيين على عناوين الأخبار العالمية، مشيراً إلى أن الإسرائيليين "لا يرون الصور من غزة التي يراها معظم العالم".
وكان لاستيلاء اليمين المتطرف والمستوطنين على الإعلام أهمية كبيرة من ناحيتين يقول نيشين. أولاً، استهدف بقوة آخر معاقل الصحافة الحرة والليبرالية، سعياً ليس فقط لتطبيع المشروع الاستيطاني، بل أيضاً لإخفاء الجرائم المرتكبة للحفاظ عليه. ثانياً، في سياق العدوان، لا يظهر للجمهور الإسرائيلي المدى الكامل للهجوم على غزة.