"الملعونون"... إنّها الحرب بلا استعراض وأبطال وأمجاد

09 يونيو 2024
"الملعونون": تركيز سينمائي باهر على أفرادٍ في حرب (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "الملعونون" لروبرتو مينرفيني يستكشف تمثّل الحرب الأهلية الأميركية في المخيال الجمعي، معتبرًا الخطاب السياسي المعاصر واستخدام استعارات البطولة والهوية الوطنية خطرًا وتضليلًا.
- يركز الفيلم على الأفراد ودوافعهم للانخراط في القتال، مثل الواجب والإيمان، من خلال تقديم شخصيات محددة تواجه تحديات وتحولات خلال مهمة استطلاعية في مونتانا عام 1862.
- يبرز مينرفيني التفاصيل اليومية والحوارات العميقة بين أفراد الفرقة، مقدمًا تأملًا في البطولة والحرب بعيدًا عن الاستعراض، ومؤكدًا على الوجه الحقيقي للحرب وتأثيرها على الأفراد.

في "الملعونون"، يستعير الإيطالي روبرتو مينرفيني عنوان فيلم عرض عام 1969 لفيسكونتي، يسلّط الضوء على جوانب قذرة للفاشية، لكنّه يختار زمن الحرب الأهلية الأميركية. مينرفيني، المُقيم في الولايات المتحدة، صوّر فيلمه هناك، وبعودته إلى الماضي، سعى إلى تفحّصِ كيفية تمثّل الحرب في المخيال الجمعي، تلك التي يجد أنّها ثابتةٌ في الخطاب السياسي الأميركي المعاصر، كما يذكر في حوار منشور في الملف الصحافي لفيلمه، الفائز بجائزة الإخراج مناصفة مع المخرجة الزامبية البريطانية رانغانو نيوني، عن "أن تصبح دجاجاً غينياً"، في "نظرة ما"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ". يقول مينرفيني إنّه يواجه مشكلة حقيقية في الاستعارات المستخدمة على نطاق واسع في أفلام الحرب، لا سيما تلك المتعلّقة بالبطولة والهوية الوطنية والانتقام، والتضحية من أجل قضية عادلة. يجد في الشعار العام، المتمثّل في "الخير في مواجهة الشرّ"، خطراً وتضليلاً سياسياً.

يبرز الفيلم لذلك نهجاً مختلفاً في تصوير الحرب. فبدل التركيز عليها وعلى وقائعها وفظاعاتها، وعلى محاربي الطرفين، يُركّز على الأفراد. يهتم بالإنسان الذي وجد نفسه في المعارك مجبراً أو مختاراً عن قناعة وضرورة، يدعو إليها إحساس بواجب وطني أو ديني، أو للدفاع عن النفس. لذا، تُعنى الكتابة السينمائية (مينرفيني نفسه) بشخصيات محدّدة، تمثّل توجّهات عدّة وقناعات متنوّعة، تُطرح عبرها تساؤلات ونقاشات عن الواجب والإيمان والطبيعة والخوف، وما يدعو الفرد إلى الالتحاق بفرقة عسكرية، ووضع نفسه في أتون الجحيم.

الفرقة مكوّنة من متطوّعين تجمّعوا شتاء 1862، بعد أشهر قليلة على بدء الحرب الأهلية (1861 ـ 1865)، وكُلّفوا بمهمّة استطلاعية لجيش الولايات المتحدة في مونتانا غرباً، والقيام بدوريات في مناطق غير مستكْشَفة. تطرأ تحوّلات على مهمّتهم، تفرضها ظروف طبيعية وهجوم أعداء، فيمرّون بفترات شكّ في هدف التزامهم العسكري، وتساؤلات وجودية عن معنى الحياة والموت والفَقد.

الفرقة قليلة العدد، تتبع جيش "الاتحاد" الذي يحارب الانفصاليين. تتنقّل في طبيعة جميلة للغاية، ومتوحّشة. مكان ملائم تماماً بإمكانياته الطبيعية، التي تحثّ المرء على اختبار مشاعره ومواقفه أمام مجهول، لا ينحصر في هذه البرّية. ففي كلّ لحظة من لحظات "الملعونون"، ومنذ البداية، هناك ترقّبٌ وانتظارُ حدث لا بدّ سيطرأ. تنصب الفرقة خِيَمها لأيام، في مكان تراه موائماً، قبل مواصلة التقدّم مجدّداً. تمضي أوقاتها، المحمّلة بقلق وانتظار وتوتر مع شيءٍ من متعةِ الصحبة، في إشعال النار، والبحث عن طرائد، والصيد في الأنهار، وتحضير الطعام، ثمّ الصلاة قبل تناوله.

في كلّ لحظة من انشغال أفراد الفرقة، هناك عدو تُنتَظر إطلالته. في كلّ لقطة وحركة وصوت، توقّع هجوم. إذا انكسر غصن شجرة وهوى، إن هبّت ريح وعصفت، إن قرّر طيرٌ الطيران وانطلق، أيّ صوت ينبعث يُحرّك هذا الترقّب، ويثير تشويقاً مُدهشاً، في فيلمٍ لا أحداث فيه، بطيء الإيقاع ومتقشّف الحوار. غير معروف من سيهجم، وكيف ومتى. حتى عند وقوع الهجوم، سيكون لوقعه تأثير المفاجأة بالكامل. في هذا إبداع إخراج وتفوّقه، في فيلمٍ يُشغله سؤالٌ: متى سيظهر العدو، هذا الذي لن يظهر حقاً؟
يخيّم على الفيلم صمت. يُترك لأفراد الفرقة تحضير استقرارهم المؤقّت في المكان، واستكشاف طبيعة المنطقة، وتنظيم دوريات الحراسة، والاعتناء بالخيل، وتنظيف الأسلحة، وتبادل كلمات غنيّة بمعانيها وعميقة بدلالاتها. كلّ كلمة فيها دعوة إلى تأمّل. كلّ رأي في الحرب، لكلّ فردٍ على حدة، يُبيّن رؤيته لها، واعتقاده الخاص تجاهها، ووجود سبب قوي دفعه إلى أن يكون هنا وإن لم يبلغ سنّ الرشد بعد، وهذا حال اثنين منهم. حوارات ذكية في ثوابت بعضهم، كالإيمان والعدالة، وفي تغيّر وجهات نظر كلّ منهم بعد الهجوم، والشعور بفجاعة فقدان القريب والرفيق. كما حصل لشاب صغير، عندما رافق، عن اقتناع وحماسة، أباه وأخاه ليكونوا معاً في القتال، ثم فَقدهما.

الأهمّ في تغيّر النظرة إلى الذات، وفي معنى البطولة والحرب، وكيف يمكن أن يصبح الإنسان أكثر إنسانية وأقلّ افتخاراً بقدراته، الجسدية هنا، وأن يغدو أقلّ اعتقاداً ببطولاته، وأكثر تسامحاً. في كلّ هذه المعالجة، وعبر نقاشات أبطال "الملعونون"، يُقدّم مينرفيني مفهوماً مغايراً للحرب والبطولات المُصاحبة لها في أفلام النوع، ويقلب مفهوم البطولة الأميركية فيها، فلا خير ضدّ شرّ.

يصوّر روبرتو مينرفيني في روائيّه هذا (له ثلاثة أفلام وثائقية وفيلمان روائيان لم يعرضا في الصالات) هول الحرب من بعيد، من دون إبدائها، باستثناء مشهد واحد للهجوم كافٍ ليكشف عنف المعارك وقسوتها. فمعظم المشاهد تدور في أشغال يومية نهاراً، والحوار ليلاً، وإظهار تفاصيل صغيرة لحياة يومية يسودها ملل وتوتر من مهمّة، لا يدري أصحابها هدفها تحديداً، في أراضٍ تكشف الغرب الأميركي بهدوء وعناية وتأمّل، وليس بوصفها مسرحَ مغامرات. يعتمد لقطات مقرّبة لشخصياته، التي تنحفر وجوهها في الذاكرة، وتعابيرها الحيادية المتحفّظة، بل الباردة أحياناً، كأنّ المناخ القارس يصيبها بعدواه في المظهر فقط، فالقلوب مفتوحة، والشعور بالتضامن على أشدّه، في هذا الجوّ الثقيل المشحون.

أداء الممثلين مُعبّرٌ بجودة متناهية عن حيرة الشخصيات وإيمانها وفكرها المتوقّد. لذا، اختارهم مينرفيني بطريقة غير تقليدية، باحثاً ليس فقط عن مهارات تمثيلية، بل أيضاً عن قدرات فكرية، ليتمكّنوا من المساهمة بفعالية في تطوير القصة ودفعها إلى أبعد ممّا تَصوّره وكتبه، فكان بينهم مؤرّخون وفنانون تشكيليون وكتّاب، لتمثيل الحرب كما أراد لها المخرج أن تظهر: "بلا استعراض ولا أبطال ولا أمجاد". فالحرب تعني أنّ هناك أناساً حقيقيين سيموتون.

المساهمون