امتلكت السينما الإيطالية، في مسارها الطويل، خاصيّةً ميّزتها عن غيرها من السينمات العالمية، وصنعت بها بصمة طبعت جزءاً من مسارها: القدرة الكبيرة على تفكيك المشاعر البشرية، وحُسن عَكْس العواطف والعلاقات الإنسانية وتجسيدها، إلى درجة محو اللامسافة بين الفيلم والمُتلقي، وإبقاء الأمر نسبياً في مجمل تلك الأفلام.
"الجبال الثمانية" (2022)، للمخرجين الزوجين فِليكس فان خْرونينغِن وشارلوت فاندرميرس، نحا هذا النحو. فرغم أنّهما بلجيكيان، حافظ الفيلم على الروح الإيطالية. إنّه مقتبس من رواية بالعنوان نفسه (2016) للكاتب الإيطالي باولو كونياتي، الفائزة بجائزتي "ستريغا" الإيطالية و"مديسيس للأدب الأجنبي" الفرنسية، عام 2017، كما فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ"، مناصفة مع EO، للبولندي جيرسي سْكوليموفسكي.
يرتكز "الجبال الثمانية" على مبدأ أساسي، يتمثّل بمحاولة فهم الصداقة بأبعادها المختلفة. لذا، يُركّز المخرجان وكاتب الرواية، بشراكتهم معاً في كتابة السيناريو، عليه عبر بحثه في العلاقة بين فردين، بدءاً من الطفولة، ثم المراهقة، رغم تذبذبها في هذه المرحلة، وصولاً إلى مرحلة الشباب، التي انتهى، أو انقطع فيها الرابط، لأسباب خارجة عن إرادتهما، بعد وفاة أحدهما، مع تركيز أكبر على إفرازات الصداقة، وتأثيرها على مستقبل كلّ فرد.
كأنّ الفيلم يُقدّم درساً بليغاً في مفهوم السلوك، بحسب علم النفس، من دون طرحه بطريقة فجّة، أو بتعالٍ وخطابية، فتلك العلاقة الإنسانية المتشابكة بينهما تسير في طريق صحيحة، بورودها وأشواكها ومنعرجاتها ومنحدراتها، لكنّها حاسمة في خياراتها، أو بعبارة أدقّ جازمة بالنتيجة التي بلغتها. لذا، ينضح الفيلم بالحميمية التي يحسّها كلّ فرد، إذْ مرت عليه بشكل ما، وهناك من يتشابك مع تفاصيل عدّة، باتت تعنيه بشكل أو بآخر، فيتفاعل مع كلّ جزء منها. إنّها القوّة الخفية والظاهرة التي تعتمد عليها السينما الإيطالية، في إعادة اكتشافها العاديّ، وتقديمه بحلّة مغايرة ومختلفة. هناك أفلام عدّة تتقاطع مع "الجيال الثمانية"، كـ"يد الله" (2021) لباولو سورينتينو، يتمثّل بـ"الحميمية" التي تغذّي المشاعر الإنسانية، وتشحنها بالذكرى وصُور الماضي.
إنّها حكاية عائلة الطفل بيترو (أدّى الدور في مرحلة الطفولة لوبو باربيرو)، الساكنة في "تورينو". عائلة متوسّطة الحال، تتكوّن من الأب جيوفاني (فيليبو تيمي)، المهندس في مصنع، والأم فرانشيسكا (إيلينا ليتي). تقرّر العائلة تمضية فصل الصيف في قرية نائية في جبال الألب، هجرها معظم أهلها. وقتٌ تبدأ فيه الثلوج بالذوبان. يتعرّف بيترو (12 عاماً) إلى برونو (أدّى الدور في مرحلة الطفولة كريستيانو ساسيلا)، الذي يبلغ عمره أيضاً، ويعيش مع عمّه ويساعده في تربية الأبقار، بعد مغادرة والده للعمل في ورشات البناء خارج إيطاليا. تنشأ بينهما علاقة صداقة عميقة، وأصبحا يلتقيان في كلّ عطلة سنوية. ذات يوم، قرّر والد بيترو أخذ برونو معه الى المدينة، لتبنّيه وتدريسه والاعتناء به. عرض الأمر على والده، فرفض وأخذه معه للعمل في تلك الورشات.
بعد ذلك، تتعقّد حياة بيترو، الذي يكبر ويترك الدراسة ويهجر أباه، لإحساسه أنّ والده سبب بتر العلاقة ببرونو. كما أنّه أراد التحرّر منه، خاصة أنّه كان يتسلّق معه قمم الجبال، ويجتازان ثلوجها. بعد ذلك، يتوفى الوالد، ويعود بيترو (أدّى الدور في مرحلة الشباب لوكا مارينيلي) إلى والدته. ثم وعندما يعود إلى القرية نفسها، ويلتقي برونو (أدّى الدور في مرحلة الشباب أليساندرو بورغي) مجدّداً، ويُجدّد العلاقة به. يُخبره برونو أنّه سيُشيّد بيتاً ريفياً في الجبال، على أرض اشتراه والده قبل وفاته، لأنّه وعده بهذا. هناك، يبدأ كلّ فردٍ منهما يروي للآخر ما فاته من حكايات، خاصة برونو الذي كان يجد السند والنصح من والديّ بيترو، في غيابه لـ10 أعوام. تتعقّد الأحداث أكثر، وتأخذ منحنى درامياً مختلفاً تماماً.
يبدأ الفيلم بصوت راوٍ يسرد الأحداث من البداية. هذا مفتاح أوّلي يُقدَّم للمُشاهد، لمَدّ جسر تواصل معه وربطه بالفيلم مباشرة، خاصة أنّ صوت الراوي مرتبط في ذهن كل فرد منهما بقصص جميلة ومذهلة تُروى عن طريق الجدّات والحكواتيّين وغيرهم. لكلٍّ منهما ذكرى مع الصوت الحامل حميميات الماضي. في الفيلم، سيعيد صوت بيترو سرد ماضيه وقصة صداقته مع برونو بأثر رجعي، مع تشكّل المَشاهد والأحداث، وفق سياق زمني مرتبط بالماضي، ليصبح صوت الراوي جزئيّةً يُستأنَس بها من حين إلى آخر، وتزرع الحميمية، وتذكّر بماضي الراوي. زاد الفضاء المكاني، حيث تجري الأحداث، من جمالية الفيلم، خاصة بصرياً، إذْ عَكسه تنوّع المَشاهد وتعدّدها في الفضاء الطبيعي الذي عكسته منطقة الألب، بجبالها ومنابع مياهها وبحيراتها وغاباتها وخضرتها، وبطريقة بناء مساكنها، وأسلوب حياة سكّانها.
معطيات مهمّة أوجدت دفئاً وروحاً، وأعطت للفيلم سلاسة في الطرح، وأذابت كلّ رتابة محتملة، خاصة أن مدّته 147 دقيقة، وهذا طويل نسبياً، إنْ لم يُبْنَ العمل بطريقة جيّدة، مع إحكام عناصره الأخرى وتثبيتها، وإن لا انهارت عملية الفرجة. نجح فان خْرونينغِن وفاندرميرس في اختبار التحمّل هذا، بتقديمهما فيلماً ثرياً، بصرياً وفنياً.
لم يكن المكان، الذي اشتُغل عليه وفيه، مجرّد فضاء لتحريك الأحداث، بل أداة قوية وفاعلة ومشبعة ببُعد فلسفي، يمثّله برونو، ابن المنطقة، الذي يعتبر نفسه ابن الجبل، لا يمكنه الابتعاد عنه أو العيش في منطقة أخرى. حتّى عند إفلاسه في مشروع تربية الأبقار وصنع الأجبان، لم يجد عملاً آخر، فبقي في كوخ صديقه بيترو، الذي بناه عشية فصل الشتاء القاسي، وهناك مات، وتغذّت من جسمه النسور الجائعة. هذا خيار موت اختاره لنفسه، بينما اختار بيترو، ابن المدينة الذي أصبح كاتباً، حياة الترحال في العالم، لفهم شعوب أخرى، وتسلّق جبالاً عدّة، وأكمل أحلام والده المُحبّ لهذه الهواية. بعدها، انعكس العنوان في المتن، إذْ رسم لصديقه دائرة من 8 أقسام، كلّ واحد منها يُمثّل جبلاً ما، تحيط بدائرة مرسومة في الوسط، تمثّل جبلاً آخر، وهذا كلّه ليفهم حكمة تعلمها، مفادها أنّ الجبال الأخرى قدر بيترو الرحّالة، بينما يمثّل جبل الوسط برونو، الذي لا يستطيع الخروج منه.
الفيلم وثيقة فنية بليغة وحميمية، فيها عناصر عدّة ساهمت في نجاحه، منها النصّ الروائي الجيد، والمعالجة الإخراجية المعتَمِدة على السرد الكلاسيكي عبر نموّ الأحداث. التمثيل الجيّد، بل الإستثنائي، منحها بُعداً آخر، خاصة مع لوكا مارينيلي وأليساندرو بورغي، اللذين أدّيا بيترو وبرونو في شبابهما، ولوبو باربيرو و كريستيانو ساسيلا بتأديتهما مرحلة الطفولة. انعكس هذان التكامل والانسجام في العمل بشكل كلّي. هناك أيضاً مدير التصوير روبن إمبينز، بالمشاهد المتنوّعة والمريحة التي اختارها بعناية فائقة، خاصة الخارجية منها.