إيراسموس في غزة... طالب طبّ إيطالي في غرف الإسعاف

08 ابريل 2024
دمّر جيش الاحتلال مجمع الشفاء أكبر مستشفى في غزة (داود أبو الكاس/ الأناضول)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في عام 2003، أدلى بنيامين نتنياهو بتصريح مثير للجدل يعتبر فيه أن وجود نسبة 40% من العرب في إسرائيل يهدد وجود الدولة اليهودية، مشيرًا إلى استعداده لاتخاذ إجراءات متطرفة ضد الأقليات العربية.
- العدوان الإسرائيلي على غزة وتدمير مستشفى الشفاء يبرز مأساة التطهير العرقي والمجازر التاريخية ضد الفلسطينيين، مع تجاهل وسائل الإعلام العالمية للتحديات الصحية القاسية التي يواجهها القطاع.
- الفيلم الوثائقي "إيراسموس في غزة" يقدم نظرة على الحياة تحت الحصار في غزة والتحديات الصحية هناك، لكنه يفشل في تقديم صورة كاملة عن دور القطاع الصحي في المقاومة والنضال الفلسطيني.

"إذا صار العرب يشكلون 40% من السكان؛ فإن هذا سيكون نهاية الدولة اليهودية، لكن نسبة 20% هي مشكلة أيضاً، وإذا صارت العلاقة بهؤلاء الـ20% إشكالية، فإن للدولة الحق في اللجوء إلى إجراءات متطرفة". (تصريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2003. من كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لإيلان بابه).


منذ بداية عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة بدأت الاستعادات التاريخية التي قام بها علماء الاجتماع للحظات معينة في تاريخ البشريَّة بالتجلي أمامنا، حيث التاريخ يكرر نفسه مأساةً. الفرق الوحيد، هنا، أن المأساة والمجازر تبث مباشرةً إلى كل العالم. إحدى هذه الاستعادات، كانت بالتقاطعات الكثيفة بين استعمار جسد المُستعمَر والتحكم بمؤشراته الحيوية بوصفها تجليات لسياسة الاستعمار، وحالتها القصوى في سياقنا هي التطهير العرقي للفلسطينيين.
مجزرة مستشفى الشفاء الأخيرة (اليوم 178 من العدوان) وتدميره تماماً (30% من القدرة الاستيعابية للقطاع الصحي في غزة)، لن تكون أبداً استثناءاً في التاريخ؛ فكما الهولوكوست، إنها جوهر الحداثة الغربية، ذلك عندما تتحد العنصرية والخبرة الطبية في يد الاستعمار تحت افتراض استشراقي؛ فيعود إلينا -نحن المستعمَرين- سؤال الطبيب غسان أبو ستة: "متى سيرتوي العالم من دمنا؟".
لم يحصل القطاع الطبي الفلسطيني أو كوادره على متابعة سينمائية تنصفهم، فالمنح الأوروبية تدعم تصوير ما هو متطرف عن اليومي، ولا يدركون أن اليومي في الحياة تحت الحصار هو المتطرف، وإن حدث وخرج أحدهم (أبناء الغرب) عن القبيلة فهو "معاد للسامية"، أما السينما العربية فمشغولة بالأجندات الداخلية لدولها.
في عام 2022، وصل الطبيب الإيطالي ريكاردو كوراديني إلى مدينة غزة بعد أن حصل على منحة تبادل طلاب في برنامج إيراسموس لمدة أربعة أشهر، وذلك لتحقيق حلمه بأن يصبح جراحاً متخصصاً في طب الحروب، وبذلك أصبح أول طالب أجنبي يدخل إلى غزة.
يدور الفيلم الوثائقي "إيراسموس في غزة" (Erasmus in Gaza) الصادر عام 2022، حول تجربة ريكاردو كوراديني في المدينة المحاصرة. جزء من العمل ذاتي جداً، نتابع فيه رسائله إلى أسرته في إيطاليا، وما تحمل من عذاباته النفسية من واقع جديد ومعقد، ويومياته الدراسية في الجامعة الإسلامية، وعلاقاته الشخصية مع زملائه وسكان المدينة، والقصف العشوائي المتواصل الذي يشنّه عليهم جيش الاحتلال الاسرائيلي.
لا شيء يمكن أن يحضر ريكاردو لهذا الواقع. هذه الحقيقة لا تستثني المخرجين كيارا أفيساني وماتيو ديلبو اللذين تابعا الطبيب الصغير في رحلته، وكانا قد تخصصا على المستوى الصحافي والسينمائي بمتابعة التظاهرات الشعبية في العالم، وقصص المهاجرين "غير الشرعيين" بخاصة في الشرق الأوسط.
لا يحمل ريكاردو كوراديني أي تصورات استشراقية، وكان اندماجه مع زملائه سريعاً. في المقابل، لم يقدم الفيلم القطاع الصحي جزءاً من المجتمع الفلسطيني، بل مؤسسةً محايدة. حاول العمل جاهداً تقديم رحلة الطالب الطموح وسرعة استجابته الإنسانية، لكنه لم ينجح بشكل مرضٍ، وظل قلق ريكاردو من أصوات القصف وهول وحجم وكمية الإصابات التي وصلت إلى المستشفى جراء العدوان الإسرائيلي على القطاع، حاجزاً بين المشاهد والحالة التعبوية التي كان من المفروض أن يدخل ريكاردو إلى قلبها.
لن نُحمّل العمل أكثر من طاقته، وعبوره الحواجز الإسرائيلية كان عبوراً مجازياً بين المراهقة والبلوغ، ذلك تجلى ذروة الفيلم في مشهد التحاقه بغرف الإسعاف حينما بدأ العمل طبيباً متكامل المهارات متحكماً بتعبه واثقاً من نفسه، يحاول الوفاءَ إلى قَسَمه.
ثمة شذرات لفرصٍ كان على المخرجين التقاطها لقراءة الواقع من عيني ريكاردو، عوضاً عن متابعة يومياته في الواقع الجديد كقصة قفز حواجز تتصاعد صعوبتها حتى يصل البطل لوحده إلى هدفه. وهنا تحديداً تكمن المفارقة؛ إذ يعتنق الفيلسوف الهولندي إيراسموس (1466 – 1536) مبدأً تبنّاه الغرب بحماسة. على كل إنسان، بحسب إيراسموس، وبشكلٍ فردي، أن يحسّن أخلاقه، وأن يستمر في المحاولة مرة بعد مرة، بغض النظر عن عدد مرات فشله. لم يدقق إيراسموس في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي يفرز "أخلاقاً" تكون نتيجة لما سبق وليست المسبب.

على النقيض من هذه الفلسفة، يقف القطاع الصحي الفلسطيني مضرجاً بالدماء، فمنذ مجزرة مخيم تل الزعتر، كان في قلب المقاومة والتعبير الأبرز عن الخلاص الجماعي للشعب الفلسطيني. ولدينا من سيِّر الأطباء الفلسطينيين ما يتفوق على أعظم أساطير التضحيات والإيثار في تاريخ البشرية.
"لديّ عالم مثالي"... هذه إحدى عبارات ريكاردو التي قالها بحسرة وهو يغادر القطاع، بينما لا يُسمح لزملائه الفلسطينيين الغزيين بالمغادرة. حسن النية لا يصنع عملاً فنياً، والهدف لهذه الجماعة الأوروبية التي تريد أن تبني جسوراً ثقافية ودبلوماسية مع سكان منطقتنا بوصفهم إخوة في الإنسانية، ليست حاملاً للعمل بالقراءات المتعددة له.
الطب والقطاع الصحي ليسا مجرد حقل علّمي محايد، أو مُحيَّد سياسياً، بل هما جوهر وحامل أساس للمقاومة وللقضية الفلسطينية ولاستمرارية الوجود الأصلاني. إحدى أهم الفرص الذي خسرها العمل، هي أطروحة ريكاردو ذاتها. هذه الأطروحة تدور تحديداً حول الرصاص المتفجر الذي جربه جيش الاحتلال الإسرائيلي على أجساد السكان الأصليين باعتبار ذلك جزءاً من عملية اختبار وتطوير الأسلحة، بهدف بيعها لباقي دول العالم. وهذا ما يفعله الاحتلال الآن، إذ جعل من قطاع غزة حقل تجارب مفتوحاً لأسلحته وجرائمه.

هذه الرصاصات المتفجرة، تترك سردية الحرب وسياسة العدوان كأنها أرشيف بيولوجي على جسد المصاب، تمكن قراءته بأثر رجعي. وعلى مستوى المجتمع، تضع هذه السردية من يحياها بحالة عجز، وبحاجة إعالة دائمة، فتكون الحياة -كما يصفها الطبيب غسان أبو ستة- في هذا البرزخ منتقصة والموت غير مكتمل، ذلك كله لم يكن في وعي المخرجين أو الطبيب الصغير.
منذ بداية مسيرة التحرر الفلسطيني في الخمسينيات إلى هذا اليوم، كان النضال الصحي جزءاً لا يتجزأ من النضال الوطني، وشكّل حالة من التعبئة المجتمعية تتجلى اليوم في المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج، الآلاف من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين يسألون: "ماذا يمكننا أن نقدم؟".

المساهمون