قبل أسبوعين مرّ العام الـ77 على رحيل أسمهان. وككل سنة تترافق هذه الذكرى مع غموض يشبه رحيلها، ويعود صحافيون لنبش تفاصيل لعلهم يكتشفون الحقيقة المجردة لوفاتها في حادث سير أثناء توجهها لقضاء إجازة في منطقة رأس البر في مصر. لكن بعيداً عن البحث عن مادة مشوّقة مرتبطة بوفاتها، يبقى رحيل أسمهان ذكرى حزينة، لفنانة كان يمكنها أن تقدّم الكثير للموسيقى الشرقية. فنانة وجد الملحنون في صوتها كنزاً نادراً وقادراً على إبراز جمال الألحان على اختلافها.
فريد غصن
بدأت مسيرة آمال الأطرش (أسمهان لاحقاً)، مع الملحن اللبناني فريد غصن، وهو واحد من أهم الملحنين في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، وقد كان من أهم عازفي العود، مرافقاً لفرقة بديعة مصابني لسنوات طويلة. قدّم غصن لأسمهان لحنَين، أشهرهما لأغنية "يا نار فؤادي"، التي كانت على شكل طقطوقة، وقد كان هذا اللحن من افضل ما أُعطي لأسمهان، إذ عرف غصن كيف يستغلّ طبقات صوتها المختلفة وقدرتها على التحول بين المقامات بكل سهولة.
زكريا أحمد
ومع شيخ السلطنة والملحنين زكريا أحمد كانت طقطوقة "عاهدني يا قلبي" (كتابة محمود حسن إسماعيل). استغل أحمد صوت أسمهان لتقديم ما طوّره في شكل الطقطوقة المصرية الشرقية. وأدت عوامل عدة إلى خروج الأغنية بشكل شبه كامل: من صوت أسمهان إلى اللحن وأداء الفرقة بشكل متكامل، ثم الدمج بين أداء أسمهان وأداء الكورس، فكان الكورس يرد بالمذهب وراء أسمهان. كذلك قدم أحمد أغنية أخرى لأسمهان، هي "عذابي في هواك"، ولكن تسجيلاتها مفقودة، علماً أن برلنتي حسن أعادت غناءها في وقت لاحق.
محمد القصبجي
وكما كان متوقعاً لصوت بهذا الجمال، تعاونت أسمهان مع محمد القصبجي الذي طمع بالعمل معها، خصوصاً بعد تحجيم أم كلثوم له، وميلها للشكل القديم من الغناء، وعدم رغبتها في التجديد. فكانت أسمهان هي منحة الله للقصبجي، وبالفعل صنع القصبجي وأسمهان عدة ألحان كانت تنبئ بشكل جديد للأغنية المصرية، ولكن موت الفنانة السورية وضع حداً لكل هذه الأحلام. ونستذكر هنا ما قدمته مع الملحّن المصري، مثل أغنية "يا طيور"، أو أغنية "إمتى حتعرف إمتى". وكانت أسمهان قد طلبت من القصبجي تلحين الأغنية الأخيرة بنفس نمط أغنية محمد عبد الوهاب "إنت وعزولي وزماني"، ولكن القصبجي عرف بحرفيته وموهبته كيف يتفوّق في "إمتى حتعرف إمتى" على لحن محمد عبد الوهاب.
كما قدم القصبجي لأسمهان عدداً من الأغاني والقصائد، مثل "ليت للبراق عينا"، و"اسقنيها"، و"أنا استاهل"، و"كلمة يا نور العيون"، ولكن لحناً واحداً أثار جدلاً لا متناهياً، هو لحن "كنت الأماني". إذ شكّل تهديداً من القصبجي لعرش أم كلثوم، وهو ما صرّح به الملحّن الكبير نفسه، إذ قال إنه عثر على صوت قادر على الوقوف أمام حنجرة أم كلثوم، وأنّ صاحبة هذا الصوت، أي أسمهان، لديها استعداد لتقديم كل ما هو جديد. هكذا لم يترك القصبجي مساحة في صوت أسمهان لم يستغلها في القرار أو الجواب في مختلف الألحان.
مدحت عاصم
كان مدحت عاصم واحداً من الموسيقيين المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية، وألف مقطوعات عدة، وكتب العديد من المقالات، وكان مدير الموسيقى في الإذاعة المصرية. وقد قدم لأسمهان لحناً من أشهر وأهم ألحانها، هو لحن "يا حبيبي تعالى الحقني". وكان اللحن في الأساس مقتبساً من لحن كوبي، قدمه مدحت عاصم بصوت ماري كويني في فيلم "زوجة بالنيابة" (1936)، بعدما كتب كلماتها الممثل أحمد جلال، زوج ماري كويني. وبعدها بأربع سنوات أي عام 1940، عادت أسمهان لتؤديها وتحقّق نجاحاً كبيراً.
لكن كانت لمدحت عاصم تجربة أخرى مع أسمهان، عبر لحن قد يكون من أفضل الألحان التعبيرية التي قدمت في تاريخ الموسيقى العربية، وهو لحن أغنية "دخلت مرة في جنينة". لحن جنائزي، لكلمات تشبه "الحدوتة" كتبها عبد العزيز سلام. وقد أضاف استخدام آلة التمباني منذ بداية الأغنية الكثير من الأجواء الرسمية والجنائزية للأغنية.
فريد الأطرش
عند استعادة سيرة أسمهان، أول ما يخطر في بال أي مستمع لأغانيها، هي تلك الألحان التي قدمها لها شقيقها الملحن والفنان فريد الأطرش. إذ قدّم هذا الأخير مع أخته فيلم "انتصار الشباب" (1941)، ولحّن جميع أغاني الفيلم، مثل "ليالي الأنس في فيينا"، و"يا بدع الورد"، كما قدم لها أغنية خفيفة في آخر فيلم لها "غرام وانتقام" (1944)، هي أغنية "أهوى". كانت الأغنية خفيفة وجميلة وجديدة على أسمهان، بعيداً عن الطقاطيق الحزينة أو القصائد.
رياض السنباطي
رياض السنباطي، صاحب أشهر ألحان القصائد، وصاحب الرحلة الأطول مع أم كلثوم، قدم لأسمهان قصائد، مثل "حديث العيون". كما قدم لها أيضا آخر أغانيها "نشيد الأسرة العلوية"، التي ماتت قبل أن تكمل تصويرها، وكان مطلعها يبدأ بجملة "أنا بنت النيل"، لتغرق أسمهان في النيل بعد أيام قليلة من تسجيل الأغنية. ولم يتوقف التعاون بينهما على هذا النشيد، بل قدّم لها مع أحمد رامي "أيها النائم". وطيلة الأغنية يبدو كأن أسمهان ترثي نفسها، لتموت بعدها بوقت قصير.