خمسة مفاصل تاريخية لتخلّف الاقتصاد المصري

27 اغسطس 2024
مكتب صرافة في القاهرة، 3 نوفمبر 2016 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **التخلّف كعملية ديناميكية**: التخلّف في مصر هو نتيجة تفاعل تاريخي مع الرأسمالية والمراكز الاستعمارية، مما أدى إلى تخلّف شامل في الاقتصاد المصري عبر قرنين من الزمن.

- **المحطات التاريخية الخمس**: معاهدة لندن 1840، دورة الاستدانة الإسماعيلية، تأزّم التصنيع في الأربعينيات، الانفتاح الساداتي في السبعينيات، ودورة التبعية والاستدانة الحديثة.

- **التأثيرات الحالية**: تفاقم الديون الخارجية والتبعية المالية تهدد الاقتصاد المصري، لكن هناك أمل في إنقاذ الوضع بإيقاف هذه الدورة.

التخلّف ليس مجرد حالة مستمرة أو وضع مُتطاول، بل عملية ديناميكية تكوّنت عبر وبفعل التراكم والتشكّل التاريخيين، في سياق الاندماج بالرأسمالية الحديثة، وضمن العلاقة بمراكزها الاستعمارية المتقدمة؛ فهو بالتعريف حالة نسبية تكتسب صفتها هذه بالقياس إلى طرف أكثر تقدماً، كما هو نتاج لحظات متراكمة عمّقت وجوده وعزّزت استمراره، وليس مجرد لحظة واحدة سقط فيها بلد ما في حالة التخلّف. فما علاقة الاقتصاد المصري بهذا التقديم؟

في هذه العملية، يتشابك السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالثقافي بحيث يصعب الفصل والتمييز بين ما هو من هذا وما هو من ذاك؛ بحكم شمولية عملية التخلّف نفسها من جهة، وبحكم عدم انفصال هذه الجوانب في الواقع شأن انفصالها في النظرية؛ فكل ذلك يؤدي إلى بعضه البعض ويدفع ببعضه البعض، سواء في الصعود أو الهبوط؛ فالتخلّف والتقدّم عمليات شاملة تمسّ كل شيء بالتزامن. وبالنظر إلى الحالة المصرية، تتجذّر أسباب تخلّف الاقتصاد المصري كما نعرفه اليوم في ميراث تاريخي يمتد لما يقرب من قرنين من الزمان، مرّ خلالها الاقتصاد المصري بما يمكن اعتباره خمسة مفاصل أو محطات تاريخية وسمت تطوّره وحدّدت مساره، بما انتهى به إلى ما نراه اليوم من ضعف عام وتخلّف شامل.

وتتجاوز أهمية هذه الاستعادة التاريخية المُوجزة مجرد استلهام العبرة الإنسانية والذكرى التي تنفع المؤمنين، إلى ضرورة إدراك خطورة اللحظة التي نعيشها اليوم في مصر؛ كونها تمثل في الحقيقة إحدى هذه المفاصل الخمسة التي لم تكتمل بعد، رغم كل ما عانيناه ونعانيه من آثارها المؤلمة طوال ما يقرب من عقد؛ علّ التنبه العاجل إليها، وقراءتها على ضوء سابقاتها، يُوقظ من لم يزل لديهم بعض من عقل أو ضمير، ويدفع إلى عدم تكرار الأخطاء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن يكتمل المفصل وندفع الثمن غالياً بعقود جديدة من إدامة وتعميق التخلّف.

1- معاهدة لندن 1840 أو كامب ديفيد الأولى هي المعاهدة التي توّجت المساعي الأوروبية لتصفية مشروع محمد علي وكبح محاولة مصر الاستقلال وأن تصبح قوة إقليمية (لهذا سُمّيت بكامب ديفيد الأولى)، والتي لم تكتف بإعادة كل ما أخذته مصر من أراضي عربية للخليفة العثماني، بل شملت أيضاً دفع جزية سنوية له تُقدّر بنحو 400 ألف جنيه، وتقليص الجيش المصري إلى مجرد جيش رمزي بتعداد 18 ألف جندي فقط، وجعل تعيين قادته جزءاً من سلطات الدولة العثمانية، وإخضاع القوات البرية والبحرية بالجُملة إلى سلطتها، فضلاً عن حرمان مصر من إنشاء السفن الحربية إلا بإذن من الدولة العثمانية كذلك.

الأهم من ذلك كله، في سياق الاقتصاد المصري تحديداً، إلزام مصر بكل المعاهدات التي أبرمتها الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية، وعلى رأسها معاهد "بلطة ليمان"، التي فرضت على مصر حرية التجارة وفتح أسواقها أمام المنتجات الأوروبية، والالتزام بالسياسة الجمركية التي أقرّتها الدولة العثمانية مع هذه الدول، والتي حاول محمد علي رفضها في البداية لما وجده فيها من تهديد لمشروعه التصنيعي، الذي كان يقوم وقتها على احتكارات تقودها الدولة، وكانت بذرة جيدة لمسار "التصنيع من أعلى"، الذي تكوّنت بمثله الصناعة اليابانية والألمانية بقيادة الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

وقد قضت هذه المعاهدة، بما فرضته من منافسة الصناعات الأوروبية الأكثر تقدماً، على محاولات مصر الأوّلية على صعيد التصنيع الكبير والاستقلال الاقتصادي، فانهارت صناعة محمد علي الاحتكارية ولم تقم لها قائمة جدياً طوال عهود أبنائه المتوالية، اللهم إلا من بعض الصناعات الحرفية ضئيلة الشأن محدودة الأهمية، ولم تنجح محاولة الخديوي إسماعيل اللاحقة في إعادة بناء صناعة حكومية، بعدما كان الاقتصاد المصري قد تحوّل كلياً إلى اقتصاد تصدير يعتمد على محصول واحد، هو القطن، بينما تمرح في سوقه المحلي السلع الصناعية الأجنبية بهوامش جمركية لا توفّر أيّ حماية حقيقية، ضرورية حدّ الحتمية، لصناعة ناشئة.

2- دورة الاستدانة الإسماعيلية كانت دورة مديونية الخديوي إسماعيل أول تجربة تاريخية لمصر مع الاستدانة الخارجية المُفرطة، والتي انتهت بمصر في قبضة صندوق الدين الإنجليزي الفرنسي، الذي يصحّ وصفه دون أدنى مبالغة بأنه كان بروتوتايب (نموذج تجريبي) لصندوق النقد الدولي، حيث قام تقريباً بنفس المهام من التحكّم بالإدارة المالية في البلد لمصلحة الدائنين، وتصفية أغلب الإنفاق العام على التعليم والصحة مُدمّراً رأس المال البشري للبلد، والتحكّم عموماً في الشؤون الداخلية لها عبر قناة ماليتها العامة، بما مثّل مقدمة وتمهيداً لاحتلالها لاحقاً.

وقد أسيء استخدام هذه الديون، فبخلاف الإهدار الصريح بالفوائد والعمولات المرتفعة للدائنين الأجانب والإنفاق الشخصي المُسرف على حاشيته وغيره، أنفق إسماعيل معظم مُتحصلات القروض على البنية التحتية، فيما لم يوجّه سوى أقل القليل إلى محاولات التصنيع الكبير والإنتاج الحقيقي، وكان أغلبها غير ناجح؛ كما هو مُتوقّع من كل عمل عشوائي غير مُمنهج، مما يتعارض مع منطق التصنيع والتنمية الحقيقيين.

ولإدراك المدى الكارثي الذي وصلت له هذه الاستدانة؛ حدّ اعتبارها مفصلاً أساسياً في تاريخ تخلّف الاقتصاد المصري يكفي أن نعرف أن مصر لم تنته منها وتحوّل ما بقي منها إلى دين محلي سوى عام 1943، أي استغرق سدادها ما يربو على سبعة عقود كاملة خُصمت من تاريخ البلد وتطوّر اقتصادها، ضاعت خلالها فرصٌ تنموية لا تُعوّض، بما أهدرته واستنزفته من موارد وطاقات هائلة.

3- تأزّم التصنيع في أربعينيات القرن العشرين وهو التأزّم الذي حدث مبكراً جداً بينما لا يزال التصنيع المصري في بواكيره الاستهلاكية، أي لا يزال في مستوى التصنيع الاستهلاكي الخفيف، فبعد الطفرة المؤقتة في الصناعة، التي شهدت تأسيس 60% من المنشآت الصناعية المصرية خلال عقد الكساد العالمي الكبير 1928-1937 (حسب التعداد الصناعي لعام 1937)؛ بما رافقه من ضعف في التجارة الدولية وتقلّص لضغوط المنافسة الأجنبية للإنتاج المحلي، عادت الصناعة إلى التباطؤ مبكراً، بينما لا تزال أغلب منشآتها قزمية الطابع، بل أقرب إلى الشكل الحِرفي، ضمن حالة من الاستقطاب الذي هيمنت ضمنه 312 مؤسسة على 84% من رؤوس الأموال المُشهَرة في المؤسسات الصناعية عام 1950، في حالة من التركيب الاحتكاري، المُتناقض مع مرحلة تطوّر الصناعة والاقتصاد المصريين والمبكر بالنسبة إليها، بما يعوق ذلك التطور نفسه؛ بإعاقته المنافسة الضرورية لتحفيز التطوّر التكنولوجي والتنظيمي عموماً، وللتعميق التصنيعي لمراحل إنتاجية أكثر رسملةً خصوصاً.

4- الانفتاح الساداتي وفِخاخ التبعية والاستدانة هذا الانفتاح الذي ترافق مع كامب ديفيد الثانية في سبعينيات القرن الماضي، وأعاد فتح أبواب الاستيراد على مصراعيها، من دون تقنين أو تقييد، تاركاً الصناعة المصرية الناشئة من دون الحماية الضرورية في مرحلة كهذه؛ لتكتسح المنتجات الأجنبية السوق المحلي، وتنمو الواردات المصرية من 18.2% إلى 43.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بإجمالي نسبة نمو 139% خلال ثمانية أعوام فقط 1973-1981، كان أغلبها سلعاً استهلاكية مباشرة أو غير مباشرة، بينما نمت الصادرات المصرية من 13.5% إلى 31% من الناتج المحلي الإجمالي، بإجمالي نسبة نمو 130% خلال نفس الفترة، كان ما يقرب من نصفها (وأكثر في بعض السنوات) صادرات بترولية غير مُستدامة.

وهكذا دخلت مصر نفق عدم التوازن الخارجي المُزمن، فاحتياجات استهلاكية مُتزايدة يجري استيرادها من الخارج على حساب إضعاف الصناعة المحلية من جهة، ومن جهة أخرى عجز مُتزايد بين موارد والتزامات النقد الأجنبي؛ بسبب العجز التجاري المُزمن وعدم استقرار موارد النقد الأجنبي التي تعتمد عليها مصر في تلبية التزاماتها المتزايدة منه.

وبتفاعل هذا العجز المُزمن مع الاحتياجات التنموية من بنية أساسية وغيرها؛ عادت مصر لتدخل دورة مديونية جديدة؛ لتنمو الديون الخارجية من 20% إلى 132.8% من الناتج القومي الإجمالي خلال عقد ونصف لا غير 1973- 1988؛ لتصبح مصر على حافة الإفلاس عام 1989، وتتفشّى فيها الدولرة منذ أواسط الثمانينيات، وتضطر في نهاية المطاف لاتفاقات برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي مع صندوق النقد أوائل التسعينيات، الذي ترادف مع مشاركتها في حرب الخليج الثانية كثمن سياسي لإسقاط نصف ديونها وجدولة النصف الآخر عبر نادي باريس.

5- دورة جديدة من التبعية والاستدانة تذكّرنا هذه الأوضاع أواخر الثمانينيات بالعقد الأخير، الذي شهد ما يبدو دورة جديدة من تفاقم الديون والتبعية، التي استصحبت معها اتفاقات جديدة متتالية مع صندوق النقد، تفاقمت معها الديون الخارجية لمصر من 14% إلى 35.4% من الناتج القومي الإجمالي خلال الفترة 2014-2022، أو من نحو 40 مليار دولار إلى 168 مليار دولار خلال الفترة 2015-2023، بنسبة نمو 320% خلال أقل من عقد، في تكرار أليم لدرس سبق وتعلّمته مصر، عندما قلّل الرئيس الأسبق حسني مبارك الاستدانة من الخارج إلى أضيق الحدود طوال العقدين الباقيين من حكمه، بعد فورتها الهائلة المذكورة آنفاً في عقد حكمه الأول في الثمانينيات، ليترك الحكم وديون مصر الخارجية لا تتجاوز 35 مليار دولار.

وقد ترادفت هذه المديونية المتفاقمة، مع ما تجلبه من اختناقات سداد، مع تعميق لتبعية البلد إلى الخارج، سواء تبعية مالية عبر الاستدانة نفسها وولوغ الأموال الساخنة في دم البلاد المالي، وتبعية نقدية بارتهان السياسة النقدية لمفاعيل الخارج تحت ضغط الدولرة المتزايدة وشروط الدائنين، أو تبعية رأسمالية ببيع أصول البلد للأجانب؛ وسيلةً لسداد المُستحقات وإنقاذ احتياطي النقد الأجنبي المُتهاوي؛ بما يمثّل منحدراً للانزلاق إلى حلقة خبيثة مُتزايدة من التأزّم المالي والنقدي، تزيد من رهن الاقتصاد المصري والقرار الوطنيَّين لتأثيرات الجهات الخارجية؛ مع الطبيعة المؤقتة والضارة لحلول تسكينية كهذه، ليست سوى "سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً" (سورة النور، آية 39).

ورغم كل الخسائر التي حاقت بالبلد والآلام القاسية التي تحمّلها الشعب المصري جرّاء هذه السياسات غير الرشيدة، والتي تكرّر أخطاءً تاريخية كلّفت مصر الويلات، فإننا لا نزال في بداية الدورة، ويمكننا إنقاذ الكثير بإيقافها قبل أن تستفحل أكثر من ذلك، وتصبح مفصلاً خامساً في تخلّف الاقتصاد المصري يعيق تقدّمه لعدة عقود أخرى قادمة!

المساهمون