- الاقتصاد الإسرائيلي حقق نجاحات كبيرة بفضل الدعم الغربي الشامل والاستفادة من الاستيلاء على الأراضي والموارد، بالإضافة إلى استغلال العمالة الرخيصة.
- التحليل يكشف عن تناقض بين الإخلاص النسبي للنخب الإسرائيلية لتنمية بلادهم والنخب العربية التي تسهم في استمرار التخلف والفقر في المنطقة العربية.
كما كانت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" جزءًا من ترسانة البروباغندا العسكرية الإسرائيلية في فترة ما بعد نكسة 1967، تبرز في أوقات السِلم أسطورة أخرى أكثر شمولاً عن التفوّق الإسرائيلي الشامل المُتجسّد في نجاح الاقتصاد الإسرائيلي الفائق والإبداع التكنولوجي السبّاق، وهى إحدى تنويعات ادعاء "العبقرية اليهودية" ذائعة الصيت، والتي استثمرت النجاحات اليهودية في عالميّ الفكر والأعمال لتأكيد تميّز واستثنائية اليهود عمن سواهم من بشر أو شعوب، بما يتأسّس في جوهره على العقيدة التلمودية التقليدية عن التفارق ما بين اليهود والأغيار، وإن كان في حلّة جديدة، علمانية اللغة حداثية الوجه.
وتقوم البروباغندا الصهيونية على عدة طبقات؛ وهكذا، فحتى لا ترتكن إسرائيل حصرًا لدعاوى المظلومية اليهودية، التي لا تبرّر وحدها احتلال أراضي آخرين، قد يعترف بهم العالم مهما حاولت إنكار وجودهم، كان لابد من طبقة إضافية توافق هوى المِزاج العنصري، الصريح والضمني، استعماري الجذور، لدى بعض الدوائر النخبوية والشعبية الغربية، وهي الطبقة المُستندة إلى دعاوى التفوّق الإسرائيلي حامل الحضارة والتقدم إلى الشرق المتخلّف الرافض للتطور أو العاجز عنه؛ ومن ثم عدو الإنسانية أو العبء عليها، لا فارق.
كما أن هذا التفوّق ضرورة حتمية لبقاء كيان مُصطنع استعمارياً، ومُقحم ديموغرافياً على محيطه؛ لهذا يمكن إيجاز أهداف تحقيق أو ادعاء تفوّق إسرائيل على محيطها كجزء محوري من مُجمل البروباغندا الصهيونية في ثلاثة أهداف أساسية:
أولاً، كما ذكرنا آنفاً، كسب الدعم والتعاطف الدوليين في مواجهة المحيط الشرقي المتخلّف اقتصادياً واجتماعياً وتقنياً، الذي لا يقدّم شيئًا مفيداً للإنسانية.
ثانيًا، لإرهاب شعوب ذلك الشرق المتخلّف نفسه؛ بكونها قوة متقدمة لا تُقهر؛ ومن ثم كسر روح المقاومة به؛ باعتبار أنه لا جدوى من مقاومتها، أو استقطاب جزء منه للإعجاب بها والتعاطف معها؛ باعتبارها نموذجاً جديراً بالاحتفاء والاحتذاء، لا الكراهية والعداء.
ثالثاً، من وجهة عملية بحتة، هو بنتائجه من رفع لمستويات المعيشة ونوعية الحياة، ضرورة لتشجيع الهجرة الإيجابية إلى إسرائيل، وتقليل الهجرة العكسية منها؛ مع الأهمية الإستراتيجية للهجرة لكامل وجودها الديموغرافي ومشروعها الاستيطاني.
لكن السؤال هنا، إذا كان لا يمكن إنكار التفوّق الإسرائيلي بمعطيات الأرقام والمؤشرات، فهل يعبّر ذلك التفوّق عن نجاح مستقل تحقّق فعلاً بإمكانات إسرائيل الذاتية؛ بحيث تصحّ المقارنة به والقياس عليه مع محيطها الإقليمي، وحتى العالمي؛ والخروج بالنتيجة، المرجوّة صهيونياً، بأنه تعبير عن تميّز إسرائيل ككيان وفائدته الإقليمية والعالمية؟
اقتصاد مُفرط التسييس: دعم مستمر منذ يومه الأول
تبدأ الكذبة بادعاء موقع السفارة الإسرائيلية بالأردن ببناء الاقتصاد الإسرائيلي من اللاشيء، وهي ككل الكذبات المُتقنة تمثل "نصف حقيقة"، وجزء الحقيقة الوحيد فيه أنه حقًا تم استزراعه بأرض غريبة عنه، سُرق معظمها من أصحابها الأصليين، بآليات تراوحت ما بين الجريمة الخشنة والقانونية الخبيثة.
فظاهرياَ نشأ ذلك الاقتصاد من الصفر، لكنه صفر يشبه الصفر الأميركي، الذي ورث قدرات بشرية ومالية ومادية وتقنية هائلة نُقلت بمنتهى البساطة من مركز الإمبراطورية البريطانية ومحيطها الأوروبي المتقدم وقتها إلى الأراضي الأميركية؛ ما يجعله ليس صفرًا على الإطلاق، وربما كان أحد أغرب الأصفار في التاريخ.
وقد بدأ هذا الاقتصاد في فلسطين بتكوين قاعدة زراعية اعتمدت على التمييز البريطاني الصريح، الذي ألغى القوانين والأنظمة العثمانية التي تمنع امتلاك اليهود للعقارات في فلسطين، وزاوجه بقانون انتقال الأراضي عام 1920، الذي بيع الأراضي إلا للمقيمين في فلسطين؛ ليخفض أسعارها ويسهّل بيعها لليهود القادمين ضمن موجات الهجرة، مع السماح بصلاحيات استثنائية لبيع الأراضي الخاصة والعامة، بشكل تم دوماً لصالح المنظمات الصهيونية، وقد رافقه في نفس العام قانون الأراضي المحلولة، الذي طرد الفلاحين العرب من أراضي الانتفاع وسمح ببيعها لليهود.
لحقه قانون الأراضي البور الذي انتزع الأراضي التي استصلحها الفلاحون العرب وأعطاها مجاناً للوكالة اليهودية، وقانون وضع اليد الذي أعطى مزايا تفضيلية للمشتري على حساب البائع بما استفاد منه اليهود، ما تزامن معه إلغاء البنك الزراعي العثماني؛ لإجبار الفلاحين على التعامل مع المرابين؛ ومن ثم انتزاع الأراضي منهم بعد العجز عن الدفع، وبيعها لليهود؛ ما يذكّرنا بالممارسات الاستعمارية/الربوية الشهيرة مع فلاحي مصر فترة الاحتلال البريطاني.
ولم يتوقّف الأمر على الزراعة، بل نالت الشركات اليهودية 90% من الامتيازات الصناعية التي منحتها حكومة الانتداب حتى عام 1935، فكان من أبرزها، للمفارقة الوقحة، شركة الكهرباء الفلسطينية بامتياز 70 سنة، وشركة البوتاس الفلسطينية بامتياز 75 سنة؛ ما كانت نتيجته بالتضافر مع التمويل الخارجي من رؤوس الأموال اليهودية وبرعاية المنظمات الصهيونية المدعومة غربياً، أن زادت المنشآت الصناعية اليهودية بنسبة 190% ورأسمالها بنسبة 630% وعمالتها بنسبة 348% خلال 12 عاماً فقط 1925-1937.
ولم يتوقّف الدعم، بل زاد وتمأسس، بعد تأسيس الدولة، فيذكر موشى تسيمرمان أستاذ التاريخ بالجامعة العبرية أن التعويضات الألمانية التي بدأت بالوصول منذ عام 1952، وفقاً لاتفاقية لوكسمبورغ، كانت نقطة التحوّل الكبرى في الاقتصاد الإسرائيلي وقتها، والتي وضعت البذرة الأساسية لنمو الصناعة الإسرائيلية لاحقاً.
وقد تجاوزت هذه التعويضات 90 مليار دولار خلال سبعين عاماً، بما يعادل ما لا يقل عن 300 مليار دولار بأسعار اليوم؛ فكانت هذه التعويضات بالإضافة للمساعدات هي سبب نجاح إسرائيل في تنفيذ استثمارات ضخمة، رغم سلبية ادخارها المحلي معظم الفترات، بل والتمتّع في ذات الوقت بمستوى معيشي مرتفع، رغم ارتفاع معدلات الزيادة السكانية بفعل الهجرة، فضلاً عن ارتفاع الإنفاق العسكري.
طبعاً لا ننسى المساعدات الأميركية، التي بلغت الرسمية والمُعلنة منها حسب مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ما يقرب من 300 مليار دولار بأسعار (2022) منذ عام 1946 حتى أواسط العام الماضي 2023، بما جعلها أكبر متلقِ للمساعدات الأميركية في التاريخ الحديث، وبما يقرب من ضعف ثاني أكبر متلقّ لها، وهو مصر، التي لا توجد أيّ مبالغة في اعتبار المساعدات لها جزءًا من الدعم الأميركي غير المباشر لإسرائيل؛ بتحييد أكبر تهديد عربي لها؛ بكل ما يشمله ذلك من تقليل للأعباء، وما يحتمله من مزايا التعاون.
وبلغت المساعدات العسكرية أكثر من 70% من المساعدات الأميركية، حاملةً عن إسرائيل ما يتراوح ما بين ربع وثلث ميزانية الدفاع حسب أوزي عيلام كبير علماء الجيش الإسرائيلي، وشاملةً دعماً تقنياً قبل أن يكون مالياً؛ بما لعب دوراً مؤثراً كمياً وكيفياً في قوة الجيش، وبما مثّل أهم قنوات طفرة قطاع التكنولوجيا الذي تزهو به إسرائيل اليوم، والذي استفاد بمعاملة استثنائية من عمالقة التكنولوجيا الأميركيين كـ Intel وIBM وغيرهم بفتح مقرات لهم بإسرائيل منذ أوائل السبعينيات، وبالتعاون اللامحدود بين الطرفين استثماراً وتسويقاً، ما أخذ شكلاً مؤسسياً بصورة اتفاقية تجارة حرة أُبرمت بينهما عام 1985، فضلاً عن التكامل مع الشركات العالمية الغربية، وبيع كثير من المنتجات الإسرائيلية تحت العلامات التجارية الأميركية الشهيرة كنايكي وماركس أند سبنسر وفيكتوريا سيكرت وغيرها كما ذكر دوف لاوتمان رجل الأعمال الإسرائيلي.
وهكذا تزاوج الدعم المالي مع دعم تجاري ومؤسسي، وكانت ألمانيا الغربية أول من فتحت أسواقها للصادرات الإسرائيلية، لتكون بوابتها إلى كامل أسواق أوروبا الغنية، ودعمت حصولها على عضوية السوق الأوروبية المشتركة عام 1975، والتي كانت محورية لإسرائيل، حد علّق عليها عيذرا سيدان وزير الاقتصاد الإسرائيلي الأسبق بالقول "لو لم نستطع التصدير إلى أوروبا؛ لكان مصيرنا الموت".
كما استفادت إسرائيل من موجات الهجرة اليهودية، خصوصاً التي شملت ذوي القدرات المالية والمهارات العالية، كموجة الهجرة الخامسة خلال الفترة 1933-1939 التي رفعت القوة الشرائية لليهود بفلسطين إلى حوالي 30%، بعد أن كانت 18% فقط عام 1931، وضاعفت رأس المال اليهودي من 2.25 إلى 7 ملايين جنيه فلسطيني خلال عقد واحد فقط (1930-1939)، كذا موجة الهجرة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات، والتي جلبت لإسرائيل، بالإضافة لخُمس سكانها وقتها، عمالة مرتفعة التأهيل مثّلت القاعدة البشرية لقطاعها التكنولوجي، ورافقها دعم ملياري أميركي لتوطينهم؛ وانعكست الموجة بالجملة على إسرائيل بزيادة الطلب الكلي وانتشالها من الركود التضخمي وتوفير دفعة لاقتصادها معظم التسعينيات.
الاحتلال واللصوصية: شهادات إسرائيلية
في تقرير بعنوان "الجانب المظلم للاقتصاد الإسرائيلي"، نشر بمجلة "+972" الإسرائيلية في يناير عام 2014، توضّح داليا شيندلين كيف اعتمدت إسرائيل على دفع أجور زهيدة للعمالة بالوظائف منخفضة المهارات، مُستغلةً ومُعزّزةً في سياق ذلك تكوينها العنصري تجاه الفلسطينيين العرب الواقعين تحت سلطتها والمهاجرين الأفارقة والآسيويين الذين تبقي أغلبهم بأوضاع إقامة غير شرعية لتسهيل استغلالهم وإجبارهم على قبول أسوأ شروط عمل وأضعف عوائد ممكنة.
يؤيده على نطاق أوسع، تقرير آخر نشرته مجلتا اللسعة Haokets و"+972" الإسرائيليتان في أكتوبر من العام السابق عليه مباشرةً 2013، يؤكد أن أكبر قفزة اقتصادية حقّقتها إسرائيل في تاريخها، على صعيد قطاعات الزراعة والصناعة التحويلية والتكنولوجيا العالية، كانت في فترة ما بين الحربين 1967 و1973؛ والتي شهدت ما اعتبره الكاتب عساف أورون أكبر عامل أسّس لنقل إسرائيل من اقتصاد عالم ثان إلى اقتصاد عالم أول، وهو تأسيس منظومة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية بعد الحرب (لنتذكّر أن الكاتب الإسرائيلي يؤمن بمشروعية الكيان ما قبل 1967)، والتي رفدت إسرائيل بعدة روافع نمو، كان من أهمها:
أولاً: قوة العمل الفلسطينية الرخيصة، التي أسهمت بخفض تكاليف الإنتاج والأسعار، ورفع هوامش الأرباح الإسرائيلية، وتقليل تكاليف المعيشة ورفع الدخول الحقيقية للمستهلكين الإسرائيليين، بل ونشأة طبقة من رواد الأعمال الإسرائيليين الصغار بفضل انخفاض الأجور.
ثانيًا: الأراضي المجانية ومواردها الطبيعية بالمناطق المُحتلة الجديدة، يشمل ذلك إلى جانب الأراضي والموارد الفلسطينية، حقل نفط أبو ديس المصري الذي موّن إسرائيل بالنفط طوال الفترة ما بين الحربين، وبما وصل لنصف استهلاكها منه عام 1973، كذا المياه من مرتفعات الجولان السورية، التي قامت عليها الزراعة بشمال إسرائيل منذ 1967، والتي وُصفت بالمنطقة الأكثر إنتاجية فيها.
ثالثًا: استطاعت إسرائيل بفضل ضم مناطق فلسطينية جديدة توسيع سوقها المحلي بحوالي 50% دفعةً واحدة، مع سياسة تمييزية استئثارية قامت بموجبها إسرائيل بدمج الأراضي المحتلة ضمن اتحاد جمركي مع تقييد أقرب للمنع للواردات الخارجية إليها، بالتوازي مع خنق الصناعة الفلسطينية المحلية بطرائق بيروقراطية عسكرية.
رابعًا: تمكّنت إسرائيل، بفضل تواجدها بالضفة الغربية، من الالتفاف حول المقاطعة العربية لها، ببيع كثير من منتجاتها للمواطنين العرب، تحت علامات تجارية عربية قائمة بالضفة الغربية، بعد تصديرها عبر الحدود الأردنية.
ويخلص الكاتب، عساف أورون، إلى أنه إلى جانب المساعدات الغربية الهائلة، السياسية والمالية والتكنولوجية على حدّ سواء، والتي رفعت عن كاهل إسرائيل كثيراً من تكاليف صراعها مع العرب، وقدّمت لها مزايا استثنائية على ما سبق ذكره، فإن التحوّل لاقتصاد احتلال بعد عام 1967 كان هو العامل الحاسم في نهضة الاقتصاد الإسرائيلي، وجاهزيته للاستفادة من الدعم الغربي في بناء قطاع التكنولوجيا الفائقة؛ ليكون محرّك نمو مهم لاحقاً؛ فما كان لينجح في ذلك سوى على قاعدة من اقتصاد غني بالفعل.
ليس الهدف من ذلك السرد إنكار نجاحات إسرائيل الاقتصادية والتكنولوجية؛ فمن وجهة عملية ليس من الحكمة قراءة الواقع على غير حقيقته، ومن وجهة قيمية يوصينا قرآننا بألا يجرمنا شنئان قوم على ألا نعدل. الهدف وضع تلك النجاحات في سياقها الحقيقي لإدراك حجمها الفعلي عندما نستبعد منها كل ما حظت به من إمكانات استثنائية؛ لئلا نقع في فخ القبول بما تبيعه لنا البروباغندا الصهيونية؛ ومن ثم المبالغة في إمكانات إسرائيل وتشرّب روح الهزيمة المأمولة منها.
فغاية القصد بيان واقع الحال، بأن العدو ليس استثنائياً منيعاً، فهو ليس قلعة التكنولوجية المستقلة التي يصوّر بها نفسه، بل مجرد تابع وامتداد –ماديًا ومالياً وبشرياً- لأقطاب التكنولوجيا الغربيين؛ ما يعطيه مزايا حقيقية لا يمكن إنكارها، لكنه ليس قطبا أصيلا ولا مُنتجا أوّليا كما يحاول تصوير نفسه، وبالمُجمل، إنه لا توجد في الأمر أيّة معجزة، بل اقتصاد فائق التسييس، حظى بدعم شامل واستثنائي غير مسبوق تاريخياً منذ أول لحظة في تأسيسه، وامتداداً لـ، وعبر كل، محطات حياته، ليس فقط من أكبر وأثرى إمبراطورية في التاريخ الإنساني، بل وتقريباً من كل القوى الاقتصادية والسياسية الكبرى في العصر الحديث.
مع ذلك، تبقى فضيلة أخيرة يتوجّب الإقرار بها لإسرائيل بالمقارنة بالعرب، هي الإخلاص النسبي لنخبها لتنميتها وتطوّرها، خلافاً لأغلب النخب العربية الضعيفة غالباً، والمتواطئة أحياناً على استتباع المنطقة اقتصادياً وسياسياً، وإنهاكها اجتماعياً وثقافياً؛ بما أدام تخلفها وفقرها.