"لا بنزين، لا دواء، لا استشفاء، لا كهرباء، لا مياه، لا مال، ولا فرح، ولا نكهة لعيد الأضحى"، هذا ما تقوله سناء حين سؤالها عن أجواء العيد الذي يطلّ على لبنان في ذروة أسوأ أزمة اقتصادية ومعيشية في تاريخه.
وتضيف بانفعال: "عيد بطعمِ التقنين في المصاريف وفي ظل العتمة والحرمان والذلّ، في حين أن السياسيين والمسؤولين عن الانهيار يسافرون ويسرحون ويمرحون بلا خجل".
لاءات يمكن أن تختصرَ الواقع السوداوي الذي يعيشه اللبنانيون، والذي تفاقم سوءاً خلال عطلة العيد مع استمرار سعر صرف الدولار في السوق السوداء بالتحليق، أسوةً بأسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، وحديثاً الأدوية، رغم أنها لا تزال مقطوعة من السوق بغالبيتها.
وراوح سعر صرف الدولار في السوق السوداء في اليومَيْن الماضيَيْن بين 22100 إلى 22400 فيما لا يزال السعر الرسمي مثبتاً عند 1500 ليرة للدولار، ما انعكس زيادة كبيرة في أسعار مختلف السلع في جميع القطاعات وتفلّتاً تخطّى الفوضى في التسعير.
هيمنة الغلاء
في جولة سريعة لـ"العربي الجديد" على بعض المحال التجارية في بيروت، يُلاحَظ أن عدداً كبيراً من المحال التي فتحت أبوابها عمدت إلى اعتماد سعر صرف للدولار وصلَ إلى 24 ألف ليرة، متخطياً السوق السوداء، ليكون ردّ أصحاب المتاجر أنهم "يعتمدون سعراً آمناً يخوّلهم الشراء لاحقاً وعدم تكبّد خسائر في حال ارتفاع سعر الصرف".
ويعمد الكثير من المحال إلى مخالفة القوانين اللبنانية، مستغلّةً الأزمة وغياب الأجهزة الرقابية، عبر إلزام الزبائن بالدفع بالدولار الأميركي، لا العملة الوطنية، وهي خطوة بدأ الكثير من المطاعم يلجأ إليها إما بفرض فاتورة بالدولار، أو اعتماد تسعيرة بالعملة الصعبة للطاولة الواحدة أو على الفرد، وتُحسَب تبعاً لسعر الصرف اليومي.
ويقول صاحب متجر ألبسة في بيروت لـ"العربي الجديد" إن الخسائر باتت كبيرة تفوق قدرته على التحمّل أو الصمود، وفي العيد لم يدخل إلى محلّه أي زبون، بعكس الأعوام الماضية حيث كانت العائلات تتهافت بكثرة إليه.
ويشير إلى أنه لا يمكنه اعتماد تسعيرة مرتفعة في ظلّ تدهور القدرة الشرائية لدى المواطنين، وخصوصاً أنّ زبائنه من طبقة أقل من المتوسّطة، وكل ما يتلقّاه يذهب لدفع إيجار المحل وأجرة العامل ومصاريف أساسية تزيد حتى على حجم البيع.
بدورها، قدّمت وزارة الاقتصاد "عيدية" إلى اللبنانيين، مع إقدامها يوم الثلاثاء على زيادة سعر ربطة الخبز، وذلك في إطار الارتفاع التدريجي الأسبوعي الذي يطاول بشدّة لقمة الفقير الوحيدة. وشهدت مختلف المواد الغذائية من فواكه، حلويات، خضروات وجميع السلع ارتفاعاً كبيراً في عطلة العيد، لتصبح موائد معظم اللبنانيين خالية من الطعام، أو تقتصر على صنفٍ واحدٍ فقط.
وأعلن مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت أن "أسعار السلع الغذائية الأساسيّة التي تحتاج إليها الأسر في لبنان سجلت ارتفاعاً كبيراً في النصف الأول من شهر تموز/ يوليو الجاري. فقد ارتفعت أسعار سلع غذائية أساسية بأكثر من 50 في المائة في أقل من شهر.
ويؤشر الارتفاع المتصاعد والأسبوعي لأسعار المواد الأساسية على بداية انزلاق لبنان نحو التضخم المفرط". وجاء في تقرير المرصد الذي نشر الأربعاء، أنه "في مقارنة مؤشر الأسعار خلال السنتين الماضيتين يمكن تبيّن الارتفاعات الكبيرة في كلفة الغذاء والحاجات الأساسية، حيث صعدت أسعار 10 سلع غذائية أساسية أكثر من 700 في المائة منذ يوليو/ تموز 2019 أي قبل الانهيار المالي والاقتصادي، منها ما تحتاجه الأسر كمكونات أساسية في غذائها كالخضار والحبوب والألبان ولحم البقر والبيض والزيت.
حتى الخبز العربي الذي يُفترض أنه مدعوم عبر دعم استيراد القمح/ الطحين على سعر الصرف الرسمي فقد ارتفع ثمنه 233 في المائة منذ أيار/ مايو 2020". وأشار المرصد إلى أن "الأكثرية الساحقة من الأسر في لبنان ستجد صعوبة في تأمين قوتها بالحدّ الأدنى المطلوب من دون دعم عائلي أو أهلي أو من دون مساعدة مؤسسات الإغاثة"، لافتاً إلى أنّ "من المتوقّع أن يستمرّ هذا التضخّم مع توقع انخفاض أكبر لقيمة اللّيرة اللبنانيّة خلال الأشهر المقبلة".
التخمين الأولي لموازنة الأسرة لتأمين غذائها فقط يصل إلى حوالي خمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور
تشير محاكاة أسعار المواد الغذائية في النصف الأول من يوليو/ تموز الحالي، وفقاً لتقرير الجامعة الأميركية في بيروت، إلى أنّ كلفة الغذاء الأدنى لأسرة مكوّنة من 5 أفراد أصبحت تقدر شهرياً بأكثر من 3.5 ملايين ليرة لبنانيّة من دون احتساب فواتير المياه والغاز والكهرباء، وهي بدورها تسجل ارتفاعاً باهظاً. وبناء على هذه التقديرات، التخمين الأولي لموازنة الأسرة لتأمين غذائها فقط يصل إلى حوالي خمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور.
أزمة الدواء
على صعيدٍ آخر، تستمرّ أزمة الدواء في لبنان على الرغم من التسعيرة الجديدة التي بدأت وزارة الصحة العامة تعتمدها تبعاً للوائح المدعومة وغير المدعومة، في ظل امتناع المصرف المركزي عن تأمين الدعم من العملات الصعبة، حيث تعترض الشركات المستوردة على اعتماد سعر الصرف 12 ألف ليرة للأدوية غير المدعومة، في حين أن سعر الصرف في السوق السوداء يتخطى الـ22 ألف ليرة، ما دفعها إلى عدم تسليم الأدوية للصيدليات التي لا يزال قسم كبير منها مقفلاً.
ويقول أحد الصيادلة في منطقة الأشرفية في بيروت لـ"العربي الجديد" إنّ "الأزمة اليوم أسوأ بكثير من السابق. الأدوية مفقودة تماماً، الشركات لا تسلّم البضائع، ولم تؤدِّ خطوة وزارة الصحة إلى إحداث أي خرقٍ أو حلٍّ، وللأسف نحن في وضع صعب جداً ونفتح شكلياً وجلّ ما نبيعه مستحضرات تجميلية وكريمات وكمامات وما شابه".
من ناحية ثانية، تعمد بعض الصيدليات إلى بيع الأدوية المقطوعة عند الآخرين بأسعار خيالية تفوق تلك التي حدّدتها وزارة الصحة في اللائحة المعلنة حديثاً.
ولدى سؤال مستشار وزير الصحة رضا الموسوي عن مدى جواز تسعير صيدليات الأدوية بأسعار تختلف عن تلك التي حددتها وزارة الصحة، يقول لـ"العربي الجديد" إن على جميع الصيدليات أن تلتزم لوائح وزارة الصحة وأسعارها.
بلا بنزين ولا كهرباء
وإلى أزمة البنزين، حيث تفاقم الوضع كثيراً خلال عطلة العيد في ظلّ عدم تسليم الشركات المستوردة للنفط البضاعة للمحطات، وهو ما ترجم عشية العيد بتهافت اللبنانيين إما على تعبئة خزانات سياراتهم بالوقود، أو شراء البنزين بالغالونات لتخزينها.
وعمدت غالبية محطات الوقود إلى الإقفال، فيما شهدت تلك التي فتحت أبوابها طوابير طويلة أمامها. ويقول عضو نقابة أصحاب المحطات في لبنان جورج البركس لـ"العربي الجديد" إنّ محطات الوقود شهدت يوم الاثنين إقبالاً كثيفاً نتيجة الإقفال في عطلة الأسبوع، أي السبت والأحد، وكذا شهدت تهافتاً عشية العيد، ما دفع القسم الأكبر من المحطات إلى الإقفال للحفاظ على المخزون الباقي لديه، أو لنفاده بالكامل، ومن فتح عمد إلى التقنين أيضاً لتلبية حاجات الناس.
في حال رفع الدعم كلياً عن البنزين والمازوت، قد يتجاوز سعر الصفيحة عتبة 400 ألف ليرة، علماً أنّ العوامل التي يرتكز عليها جدول الأسعار يرتبط داخلياً بسعر صرف الدولار في السوق السوداء
ويلفت إلى أنّ شركات التوزيع مقفلة في عطلة العيد، ولم تسلّم البضائع، ونأمل أن تحلّ الأزمة يوم الجمعة المقبل، علماً أن هناك مشكلة أخطر الآن، وهي بواخر الوقود المتوقفة في عرض البحر ولم تحصل على الموافقات المطلوبة للتفريغ من جانب مصرف لبنان الذي قد يكون في "عطلةٍ" أيضاً. ويشير البركس إلى أنه "يبدو أننا متجهون إلى تفاقم للأزمة، ففي حال رفع الدعم كلياً عن البنزين والمازوت، قد يتجاوز سعر الصفيحة عتبة 400 ألف ليرة، علماً أنّ العوامل التي يرتكز عليها جدول الأسعار يرتبط داخلياً بسعر صرف الدولار في السوق السوداء، الرسوم والضرائب والجعالات، إضافة إلى سعر برميل النفط عالمياً الذي هو اليوم بحدود 72 إلى 73 دولاراً، مع العلم أن الأسعار عالمياً قد تنخفض نظراً للتطورات الإقليمية.
وفي ظلّ انقطاع مادة المازوت، عاد أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة للتلويح بالعتمة الشاملة بعدما عمدوا في الفترة الأخيرة إلى إطفاء مولداتهم لبضع ساعات، وذلك مع ارتفاع التقنين في الكهرباء الرسمية الذي فاق 22 ساعة يومياً، ورغم رفع تسعيرتهم الشهرية إلى ما يتخطى مليون ليرة لكل 10 أمبير.
ويؤكد عدد من هؤلاء في حديث مع "العربي الجديد" أنهم لن يحلوا بديلاً من الدولة، ولا يستطيعون تأمين الكهرباء لعشرين ساعة وأكثر، خصوصاً مع حاجة المولدات للمازوت الذي ترتفع أسعاره كثيراً.